وقد حاولت أن أثبت في كتاب آخر أن الأخلاق التي تتألف من تجمُّع المشاعر اللاشعوري، لا الذكاء، هي التي تُسَيِّرنا، ولذا يجب على من يَرغَب في الوقوف على شأن الأفراد والأقوام في التاريخ أن يبدأ بالبحث في أخلاقهم، وقول يوليوس قيصر في أجدادنا:«إنهم محبون للثورات، موقدون للحروب بلا سبب، غير صبر على نوائب الدهر» مما يساعد على تفسير حوادث ماضينا.
ومن السهل أن نستعين بحوادث التاريخ فنُثبت أن نتائج الأخلاق تختلف باختلاف الأحوال، وأن المزايا والنقائص التي كانت سببًا في عظمة أمةٍ في زمن معين قد تكون سببَ انحطاطها في زمن آخر، كما هو أمر العرب، ويدلُّ إنعام النظر على صدور مختلف النتائج عن عللٍ واحدة، ومن ذلك أنه يظهر، أولَ وهلةٍ، وجودُ هوة اجتماعية بين الإغريقي في عصر بركليس وبينه في العصر البيزنطي مع أن الأحوال، لا الجوهر الخُلقي، هي التي تغيرت في هذين العصرين، أي أن رقة الإغريقي ودِقَّته الفلسفية وجمالَ لغته انقلبت إلى خداعٍ وبحثٍ كلامي وثرثرة بيزنطية بفعل البيئة وبتبدل الزمن، وقد يخيل إلى الناظر أن رجال محاكم التفتيش في القرون الوسطى يختلفون بإيمانهم المتقد ومحفظتهم الغريزية الشديدة عن اليعاقبة المعاصرين المتصفين بالزندقة المتطرفة والغرائز الثورية، مع أن قليلَ تأملٍ يدل على أن هذين الفريقين متشابهان، وأن أسماء المعتقدات وحدها هي التي تغيرت.
وينضم إلى عناصر الخلق القومي الأساسية الثابتة ثباتَ الفِقَر في ذوات الفِقرات عناصر ثانويةٌ تختلف كاختلاف الطول وشكل الجسم واللون في ذوات الفقرات أيضًا، وهذه العناصر الثانوية هي ما يَصحُّ أن يقال معها: إن الأذواق والأفكار تتغير بتغير الأزمان، ولكن تغيراتٍ كهذه لا تؤثر في عناصر الخلق الجوهرية، ويُمكن تشبيه هذه العناصر الجوهرية بالصخرة التي تلتطم عليها الأمواج من غير أن تزحزحها، ويُمكن تشبيه تلك التغيرات بما تَضَعُه الأمواج من الرمل والصَّدف والنبات على هذه الصخرة؛ لتعود فتأخذه منها بسرعة.
ومما تقدم يعلم القارئ أن البحث التاريخي يجب أن يستند على دراسة عناصر الخُلق القومي الأساسية ليُفرِّق بين الأمم، وقد وَصَفْنَا - بما فيه الكفاية - عناصر الخُلق العربي، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة أخرى، ونحن إذا تركنا جانبًا ما قلناه عن ذكاء العرب وحماستهم واستعدادهم الفني والأدبي ... وما إلى ذلك من الصفات التي لولا وجودُها فيهم ما استطاعوا أن يصلوا إلى درجة الحضارة، فإننا نذكُر صفاتِهم