روي أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا إذا سُبِقوا ببعض الصلاة صلوا ما فاتهم منفردين، ثم دخلوا مع الإمام فصلوا معه بقية الصلاة، كما رواه أبو داود في أبواب الأذان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحابنا، قال: كان الرجل إذا جاء يسأل، فيخبر بما سبق من صلاته، وأنهم قاموا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من بين قائم، وراكع، وقاعد، ومصل مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء معاذ، فأشاروا إليه، فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، فقال:"إن معاذًا قد سَنَّ لكم، كذلك فافعلوا".
ورواه الطبراني في "معجمه" من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ -رضي اللَّه عنه-، وفي لفظ له: فقال: "قد سَنّ لكم معاذ، فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم، وقد سُبِق بشيء من الصلاة، فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام، فليقض ما سبقه به".
قال المزني: قوله: "إن معاذًا قد سَنّ لكم" يحتمل أن يكون النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمِر أن يَسُنَّ هذه السنّة، فوافق ذلك فعل معاذ، وذلك أن بالناس حاجة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كل ما يَسُنّ، وليس بهم حاجة إلى غيره. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يقال: لا نسخ في هذه القضية، ولكن الأمران جائزان، أعني متابعة الإمام فيما هو فيه، ثم استدراك ما بقي بعد سلامه، والدخول في الصلاة منفردًا، ثم الاقتداء بالإمام في أثناء الصلاة، وكان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يفعلون أحد الأمرين، فلما فَعَلَ معاذ الأمر الآخر استحسنه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورجحه على الأمر الأول، لا أنه حتّمه، وصَيَّره ناسخًا بحيث إنه امتنع فعل الأمر الآخر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كونه ناسخًا هو الأظهر كما لا يخفى على من تأمّله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
٦ - (ومنها): أنه استُدِلّ به على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تُحْسَب له تلك الركعة؛ للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته الوقوف، والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة، وجماعة، بل حكاه البخاريّ في "جزء القراءة خلف الإمام" عن كل مَن ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة، والضَّبَعيّ، وغيرهما من محدثي الشافعية، وقوّاه الشيخ تقي الدين السبكيّ من المتأخرين.