للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لَمَّا سَمِع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- هذا الذّمّ ظنّوا أنَّها قد حُرِّمت، فصرَّحوا به، وكأنهم فَهِموا هذا من إطلاق الخبيثة عليها من أنهم قد سَمِعوا من قول اللَّه تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الآية [الأعراف: ١٥٧]، فبيَّن لهم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن إطلاق الخبيث لا يلزم منه التحريم؛ إذ قد يُراد به ما لا يوافق عادةً واستعمالا، وعند هذا لا يصحّ للشافعيّ الاحتجاج بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} على تحريم ما يُستَخبَثُ عادةً، كالحشَرَات وغيرهما؛ إذ الخبائث منقسمة إلى مستخبث عادةً، وإلى مستخبث شرعًا، ومراده تعالى في الآية المستخبثات الشرعيّة؛ إذ قد أباح البصل والثوم مع أنَّها مستخبثة، وحرّم الخمر والخنزير، وإن كان قد يُستطاب، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: من هنا يتبيّن أن من يستدلّ على تحريم شرب الدخان (السجارة) بهذه الآية غير مصيب؛ لأن الخبث لا يدلّ على التحريم؛ إذ ليس كلّ خبيث حرامًا، كما بيّن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن خُبْث هذه الشجرة لا يجعلها حرامًا، وإنما يصحّ الاستدلال على النهي عن شرب الدخان من جهة الطبّ؛ إذ هو مناف للصحّة، كما أثبت ذلك الأطبّاء، ففيه إلقاء النفس إلى التهلكة، وقد قال اللَّه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وأيضًا هو متلف للمال بدون ضرورة.

والحاصل أن كلّ حرام خبيثٌ وليس كلُ خبيث حرامًا، فتنبّه، لهذه الدقائق، فإنها مزلّة أقدام، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-) أي قولهم: "حُرّمت حُرّمت" (فَقَالَ) -صلى اللَّه عليه وسلم- ("أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي) يعني أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يجوز له أن يُحَرِّم شيئًا مما أحلّ اللَّه تعالى له دون أن يأتيه الأمر من اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- بتحريمه، فإن التحريم والتحليل للَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وإنما النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلّغ عنه (وَلَكِنَّهَا) أي البقلة التي أكلوها (شَجَرَةٌ أَكْرَهُ) بفتح الراء، يقال: كَرِهت الأمرَ أَكْرَهه، من باب تَعِبَ كُرْهًا بضمّ الكاف، أكرهه: ضدّ أحببته، فهو مكروه (٢). (رِيحَهَا) يعني أن سبب


(١) "المفهم" ٢/ ١٦٨.
(٢) راجع: "المصباح المنير" ٢/ ٥٣١ - ٥٣٢.