للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

له، والفتيا به؛ لِمَا يجب عليه من طاعة الإمام وموافقته، فلَمّا وُلِّي عَمِلَ بما كان عنده، هذا هو الظاهر من حال عمر - رضي الله عنه -، ولا يجوز أن يقال: إنه قد ظهر له من جواز السبي ما ظهر لأبي بكر، ثم تغيّر اجتهاده؛ لأن ذلك يلزم منه خرق إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - السابق، فإنهم كانوا قد أجمعوا مع أبي بكر - رضي الله عنه - على السبي، وعَمِلُوا بذلك من غير مخالفة ظهرت من أحد منهم، ولا إنكار ظاهر، غير أنهم منقسمون في ذلك إلى من ظهر له جواز ذلك، فسكت لذلك، ومنهم من ظهر له خلاف ذلك، فسكت بحكم ترجيح قول الإمام العدل المجتهد على رأيه، ولوجوب اتّباع الإمام على ما يراه، والعمل به، فإذا فُقد ذلك الإمام، تعيّن على ذلك المجتهد أن يَعمل على ما كان قد ظهر له، لكن بعد تجديد النظر، لا أنه يعتمد على ذلك الرأي الأول من غير إعادة البحث ثانيةً؛ لإمكان التغيّر على ما بُيّن في محلّه من "أصول الفقه".

وقد حكى بعض الناس أن الإجماع انعقد بعد أبي بكر - رضي الله عنه - على أن المرتدّ لا يُسبَى، وليس ذلك بصحيح؛ لوجود الخلاف في ذلك، كما حكيناه عن أصبغ، ولأنه يؤدّي إلى تناقض الإجماعين، وهو محالٌ، كما يُعرف في "الأصول"، ولَمّا اعتقد بعض الأصوليين في هذه المسألة إجماعين متناقضين، رأى أن الْمَخْلَص من ذلك اشتراط انقراض العصر في صحّة الإجماع، فلم ينعقد عند هذا القائل فيها إجماع أوّلًا وآخرًا؛ لأن عصر الصحابة لم يكن انقرض في زمان عمر - رضي الله عنه -.

قال القرطبيّ: واشتراط انقراض العصر في دلالة الإجماع باطلٌ؛ لأنه زيادة شرط في دلالات الإجماع الصحيحة من غير أن يشهد لتلك الزيادة عقلٌ ولا نقلٌ، والصحيح من هذه المسألة أنه لا إجماع فيها أوّلًا ولا آخرًا؛ لإضمار الخلاف فيها في عصر أبي بكر - رضي الله عنه -، والتصريح به بعده (١). انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


(١) "المفهم" ١/ ١٨٦ - ١٨٧.