أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جزء فاحتز رأسه، وكان سنّه وقت قُتل نيّفًا على تسعين سنة، وكانت صفين في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين، ودَفَنه عليّ -رضي اللَّه عنه- في ثيابه، ولم يغسله كما فُعل بشهداء أُحُد.
ولمّا ثبت أن أصحاب معاوية قتلوا عمّارًا صدق عليهم خبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنهم أنهم البغاة، وأن عليًّا -رضي اللَّه عنه- هو الإمام الحق.
ووجه ذلك واضح، وهو أن عليًّا -رضي اللَّه عنه- أحق بالإمامة من كلّ من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت، من غير نزاع من معاوية، ولا من غيره، وقد انعقدت بيعته بأهل الحلّ والعقد، من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأهل دار الهجرة، فوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته، وحرمت عليهم مخالفته، فامتنعوا عن بيعته، وعملوا على مخالفته، وكانوا له ظالمين، وعن سبيل الحق ناكبين، فاستحقوا اسم البغي الذي شهد به عليهم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يُنجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة، فإنها تحريفات، عن سنن الحق حائدة.
نقل الأخباريون أن معاوية -رضي اللَّه عنه- تأوّل الخبر تأويلين:
أحدهما: أنه قال بموجب الخبر، فقال: نحن الباغية لدم عثمان -رضي اللَّه عنه-.
وثانيهما: أنه قال: إنما قتله من أخرجه للقتل، وعَرَّضه له، وهذان التأويلان فاسدان.
أما بيان فساد الأول، فالبغي -وإن كان أصله المطلب- فقد غلب عُرْف استعماله في اللغة والشرع على التعدّي والفساد، ولذلك قال اللغويون، أبو عبيد وغيره: البغي: التعدّي، وبغى الرجل على الرجل: استطال عليه، وبغت السماء: اشتدّ مطرها، وبغى الجرح: وَرِم، وترامى إلى فساد، وبغى الوالي: ظَلَم، وكلُّ مجاوزة، وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء: بغيٌ، وبرئ جرحه على بغي، وهو أن يبرأ وفيه شيء من نَغَل، وعلى هذا فقد صار الحال في البغي كالحال في الصلاة، والدّابة، وغير ذلك من الأسماء العرفية التي إذا سمعها السامع سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل، لا الأصلي الذي قد صار كالمطّرح، كما بيّناه في الأصول، وإلى حَمْل اللفظ على ما قلناه صار عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيره يوم قُتل عمّار، وأكثر أهل العصر، ورأوا: أن ذلك التأويل تحريف.