قال ابن جرير -رَحِمَهُ اللَّهُ-: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضًا من أمر هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، إذ أخذ اللَّه ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة، والإنجيل، وأنك للَّه رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، يقول: فتركوا أمر اللَّه، وضيّعوه، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك، {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوّتك، عوضًا منه خسيسًا قليلًا من عَرَض الدنيا، ثم ذمّ جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك، فقال:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}. انتهى (١).
وقال في "فتح القدير": قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب، وهم: اليهود، والنصارى، أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب: كل من آتاه اللَّه علم شيء من الكتاب؛ أيُّ كتاب كان، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب، قال الحسن، وقتادة: إن الآية عامّة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: لولا ما أخذ اللَّه على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية، والضمير في قوله:{لَتُبَيِّنُنَّهُ} راجع إلى الكتاب، وقيل: راجع إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن لم يتقدّم له ذكر؛ لأن اللَّه أخذ على اليهود والنصارى أن يبيّنوا نبوّته للناس، ولا يكتموها، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}. وقرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وأهل المدينة:"ليبيننه" بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. وقرأ ابن عباس:"وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيين لتبيننه"، ويشكل على هذه القراءة قوله:{فَنَبَذُوهُ} فلا بد من أن يكون فاعله الناس. وفي قراءة ابن مسعود:"لتبينونه"، والنبذ: الطرح، وقد تقدّم في "البقرة": {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} مبالغة في النبذ، والطرح، وقد تقدّم أيضًا معنى قوله:{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} والضمير عائد إلى الكتاب الذي أُمروا ببيانه، ونُهوا عن كتمانه، وقوله:{ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: حقيرًا يسيرًا من حُطام الدنيا،