للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

استغفاره عما يقع بطريق السهو، والغفلة، أو بطريق الاجتهاد، مما لا يصادف ما في نفس الأمر.

وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك للزم منه أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بمثل ذلك، فيكونون أشدّ حالًا من أممهم.

وأجيب بالتزامه، قال المحاسبيّ: الملائكة والأنبياء أشدّ للَّه خوفًا ممن دونهم، وخوفهم خوف إجلال وإعظام، واستغفارهم من التقصير، لا من الذنب المحقّق.

وقال عياض: يَحْتَمِل أن يكون قوله: "اغفر لي خطيئتي"، وقوله: "اغفر لي ما قدّمت، وما أخرت" على سبيل التواضع، والاستكانة، والخضوع، والشكر لربه؛ لِمَا عَلِم أنه قد غُفر له، وقيل: هو محمول على ما صدر من غفلة، أو سهو، وقيل: على ما مضى قبل النبوة.

وقال قوم: وقوع الصغيرة جائز منهم، فيكون الاستغفار من ذلك، وقيل: هو مثل ما قال بعضهم في آية الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: ٢]؛ أي: من ذنب أبيك آدم، وما تأخر؛ أي: من ذنوب أمتك. انتهى (١).

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد تقدَّم القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب، وفي معنى ذنوبهم غير مرة، ونزيد هنا نكتتين:

إحداهما: أنّا وإن قلنا: إن الذنوب تقع منهم، غير أنهم يتوقعون وقوعها، وأن ذلك ممكن، وكانوا يتخوفون من وقوع الممكن المتوقع، ويُقَدِّرونه واقعًا، فيتعوذون منه، وعلى هذا فيكون قوله: "وكل ذلك عندي"؛ أي: ممكن الوقوع عندي، ودليل صحة ذلك أنهم مكلّفون باجتناب المعاصي كلّها، كما كُلِّفه غيرهم، فلولا صحّة إمكان الوقوع لَمَا صحّ التكليف.

والثانية: أن هذه التعويذات، وهذه الدعوات، والتضرّعات قيام بحقّ وظيفة العبودية، واعتراف بحقّ الربوبية؛ ليقتدي بهم مذنبو أممهم، ويسلكوا مناهج سُبُلهم، فتُستجاب دعوتهم، وتُقبل توبتهم، واللَّه تعالى أعلم، وقد أطنب الناس في ذلك، وما ذكرناه خلاصته. انتهى كلام القرطبي -رَحِمَهُ اللَّهُ- (٢).


(١) "الفتح" ١٤/ ٤٤٠.
(٢) "المفهم" ٧/ ٤٧ - ٤٨.