للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

فيه بُعد يستبعده من له اطلاع في التاريخ، وكانت المدينة دار العلم، ومعدن الشريعة، وإليها يهرع الناس في أمر دينهم.

[فإن قلت]: إذا كان الأمر كذلك كيف لم يغيّر أهلها هذا المنكر؟.

[قلت]: لا يخلو زمان من ارتكاب المعاصي، وقد كان في وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن شرب الخمر، وسَرَق، وزنى، إلا أنه كان شاذًّا نادرًا، فلا يحل لمسلم أن يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغيِّر المنكر، فكذلك أمرُ القُصّة بالمدينة كان شاذًّا، ولا يجوز أن يقال: إن أهلها جَهِلوا النهي عنها؛ لأن حديث لعن الواصلة حديث مدنيّ معروف عندهم، مستفيض. انتهى كلام العينيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١)، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقول معاوية - رضي الله عنه -: "يا أهل المدينة" أين علماؤكم؟ " هذا من معاوية - رضي الله عنه - علي جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه، واستعانة على ما رام تغييره من ذلك، لا على جهة أن يُعْلِمهم بما لم يعلموا، فإنَّهم أعلم الناس بأحاديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما في ذلك العصر. ويَحْتَمِل أن يكون ذلك فيه؛ لأنَّ عوام أهل المدينة أول من أحدث الزور، كما قال في الرواية الأخرى: "إنكم قد أحدثتم زِيَّ سَوْء يعني: الزور، فنادى أهل العلم ليوافقوه على ما سمعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن ذلك، فينزجر من أحْدَث ذلك من العوام. وقد فسَّر معاوية الزور المنهي عنه في هذا الحديث بالخِرَق التي يُكْثِر النساء بها شعورهن بقوله: "ألا وهذا الزور"، وزاده قتادة وضوحًا.

و"الزور" في غير هذا الحديث: قول الباطل، والشهادة بالكذب. وأصل التزوير: التمويه بما ليس بصحيح.

وهذا الحديث حجَّة واضحة على إبطال قول من قصر التحريم على وصل الشعر، كما تقدَّم. وهذا يدلّ: على اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها مرجع يُعتمد عليه في الأحكام. وهو من حجج مالك على أن إجماع أهل المدينة حجَّة، وقد حققنا ذلك في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (٢).

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ)؛ أي: ينهى النساء عن


(١) "عمدة القاري" ٢٢/ ٦٣.
(٢) "المفهم" ٥/ ٤٤٨.