للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

قال: ومُحَصَّل القصة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُوسع العطاء لمن أظهر الإسلام؛ تَألُّفًا، فلما أعطى الرهط، وهم من المؤلفة، وتَرَكَ جُعَيلًا، وهو من المهاجرين، مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد في أمره؛ لأنه كان يَرَى أن جُعيلًا أحقُّ منهم؛ لِمَا اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مَرَّة، فأرشده النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أمرين

[أحدهما]: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحِرْمان جُعيل، مع كونه أحبَّ إليه ممن أَعْطَى؛ لأنه لو تَرَك إعطاء المؤلَّف لم يُؤمَن ارتداده، فيكون من أهل النار.

[ثانيهما]: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن، دون الثناء بالأمر الظاهر، فوَضَحَ بهذا فائدةُ رَدِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سعد، وأنه لا يَستَلزم محضَ الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشُورة بالأَوْلى، والآخر على طريق الاعتذار.

[فإن قيل]: كيف لم تُقْبَل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد لي بالعدالة لقُبِل منه، وهي تستلزم الإيمان؟

[فالجواب]: أن كلام سعد لم يَخْرُج مخرجَ الشهادة، وإنما خَرَج مَخْرَج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة، لَمَا استلزمت المشورةُ عليه بالأمر الأَوْلَى رَدَّ شهادته، بل السياق يُرْشِد إلى أنه قَبِلَ قولَه فيه، بدليل أنه اعتذر إليه.

قال: ورَوَينا في "مسند محمد بن هارون الرُّويانيّ" وغيره بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجَيْشانيّ، عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كيف تَرَى جُعَيلًا؟ "، قال: قلت: كشكله من الناس؛ يعني: المهاجرين، قال: "فكيف تَرَى فلانًا؟ "، قال: قلت: سيّدٌ من سادات الناس، قال: "فجُعيل خيرٌ من ملء الأرض من فلان"، قال: قلت: ففلان هكذا، وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال: "إنه رأس قومه، فأنا أتأَلَّفُهم به"، فهذه منزلةُ جُعيل المذكور عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما تَرَى، فظَهَرت بهذا الحكمةُ في حِرْمانه، وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف، كما قررناه. انتهى كلام الحافظ - رحمه الله - (١).


(١) "الفتح" ١/ ١٠١ "كتاب الإيمان" رقم (٢٧).