أنه صاع شعير، وبهيمة، والله أعلم، وأما الحديث الثالث، وهو حديث أنس في طعام أبي طلحة ففيه أيضًا هذان العَلَمان من أعلام النبوة، وهما: تكثير القليل، وعِلْمه - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا القليل سيكثره الله تعالى، فيكفي هؤلاء الخلق الكثير، فدعاهم له.
وقال عند شرح قوله:"أرسلك أبو طلحة؟، فقلت: نعم"، وقوله:"ألطعام؟ فقلت: نعم" ما نصّه: هذان عَلَمان من أعلام النبوة، وذهابه - صلى الله عليه وسلم - بهم عَلَمٌ ثالث، كما سبق، وتكثير الطعام عَلَمٌ رابع، وفيه ما تقدم في حديث أبي هريرة، وحديث جابر، من ابتلاء الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - والاختبار بالجوع وغيره من المشاقّ؛ ليصبروا، فَيَعْظُم أجرهم، ومنازلهم، وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم، وفيه ما كانت الصحابة - رضي الله عنهم - عليه من الاعتناء بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه استحباب بعث الهديّة، وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه؛ لأنها وإن قَلَّت فهي خير من العدم، وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم، ويؤدبهم، واستحباب ذلك في المساجد، وفيه انطلاق صاحب الطعام بين يدي الضِّيفان، وخروجه؛ ليتلقاهم، وفيه منقبة لأم سليم - رضي الله عنها -، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها؛ لقولها: الله ورسوله أعلم، ومعناه: أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يَعْلَمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها، فلا تحزن من ذلك، وفيه استحباب فَتِّ الطعام، واختيار الثريد على الغمس باللقم. انتهى كلام النوويّ- رحمه الله - (١)، وإنما ذكرته، وإن كان جلّه تقدّم؛ لكونه مجموعًا في محل واحد، فهو أَفْيد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
١٥ - (ومنها): ما قال أبو عمر بن عبد البرّ - رحمه الله -: احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في جواز شهادة الأعمى على الصوت، وقال: لم يمنع أبا طلحة ضَعْف صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تمييزه؛ لِعِلْمه به، فكذلك الأعمى إذا عرف الصوت، وعارضه بعض من لا يرى شهادة الأعمى جائزة على الكلام بأن أبا طلحة قد تغيّر عنده صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين