وقال ابن عبد البرّ - رحمه الله -: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله" دليلٌ على أنه ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح نيّته، ويعلم الله من قلبه أنه خرج يريد وجهه، ومرضاته، لا رياء، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا فخرًا، وفي هذا الحديث أيضًا دليل على أن الشهيد يُبعث على حاله التي قُبض عليها، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في كل ميت - والله أعلم - يبعث على حاله التي مات فيها، إلا أن فضل الشهيد المقتول في سبيل الله بين الصفين أن يكون ريح دمه كريح المسك، وليس كذلك دم غيره، ومن قال: إن الموتى جملةً يبعثون على هيئاتهم، احتَجَّ بحديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - أنه لمّا حضرته الوفاة دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها"، وهذا قد يَحْتَمِل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد، فتأوّله على العموم، ويكون الميت المذكور في حديثه هو الشهيد الذي أُمر أن يزَمَّل بثيابه، ويُدفن فيها، ولا يغسل عنه دمه، ولا يغيّر شيء من حاله، بدليل حديث ابن عباس وغيره، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"إنكم محشورون يوم القيامة حُفاةً، عُراةً، غُرْلًا، ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء: ١٠٤]، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم"، فلهذا الحديث وشِبهه تأوّلنا في حديث أبي سعيد ما ذَكَرنا، والله أعلم.
قال: وقد كان بعضهم يتأول في حديث أبي سعيد أنه يُبعث على العمل الذي يُختم له به، وظاهره على غير ذلك، والله أعلم.
وقد استَدَلّ جماعة من أهل العلم بهذا الحديث، وما كان مثله في سقوط غسل الشهيد المقتول في دار الحرب بين الصفين، ولا حاجة بنا إلى الاستدلال في ترك غسل الشهداء الموصوفين بذلك مع وجود النصّ، فقد أخرج أبو داود، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أُحد: "لا تغسلوهم،