(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز حكم الحاكم بعلمه:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: تمسَّك بالحديث الماضي، وهو حديث أم سلمة - رضي الله عنها - من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء إلا بما يعلمه في مجلس حكمه، ووجه تمسُّكه: أن كلامه - صلى الله عليه وسلم - يفضي إلى أنَّه لا يحكم إلا بما سمع في حال حكمه، وقد رُوي بلفظ:"إنما أحكم بما أسمع"، و"إنما" للحصر، فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع.
وقد اختُلف في هذا، فقال مالك في المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والشعبيّ، وروي عن شُريح. وذهبت طائفة إلى أنه يقضي في كلّ شيء من الأموال، والحدود، وغير ذلك مطلقًا، وبه قال أبو ثور، ومن تبعه، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وذهبت طوائف إلى التفريق، فقالت طائفة: يقضي بما سمعه في مجلس قضائه خاصّة، لا قبله، ولا في غيره إذا لم تحضر مجلسه بيّنة، وفي الأموال خاصّة، وبه قال الأوزاعيّ، وجماعة من أصحاب مالك، وحكوه عنه.
وقالت طائفة: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه، وفي غيره، لا قبل قضائه، ولا في غير مصره، في الأموال خاصّة، وبه قال أبو حنيفة.
وقالت طائفة: إنه يقضي بعلمه في الأموال خاصّة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه، وفي غيره، قبل ولايته، أو بعدها، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعيّ.
وذهب بعض المالكيّة إلى أنه يقضي بعلمه في الأموال، والقذف خاصّة، ولم يشترط مجلس القضاء، واتّفقوا على أنه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل؛ لأن ذلك ضروريّ في حقّه.
قال القرطبيّ رحمه الله: والصحيح الأول؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث هلال بن أميّة - رضي الله عنه - لمّا لاعَن زوجته:"أبصروها، فإن جاءت به - يعني: الولد - على نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا، فهو لشريك"، فجاءت به على النعت المكروه، وقال:"لو كنت راجمًا بغير بيّنة، لرجمت هذه"، فلم يحكم بعلمه؛ لعدم قيام البيّنة، وعند المخالف يجب أن يرجُمها إذا علم ذلك،