مسألة هند كانت على طريق الفتوى، والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب، لا يكون إلا على القول بأنها كانت حُكمًا.
[والجواب]: أن يقال: كل حكم يصدر من الشارع، فإنه ينزَّل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين. انتهى (١)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القضاء على الغائب:
قال الموفّق رحمه الله: من ادَّعى حقًّا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط، وبهذا قال شبرمة، ومالك، والأوزاعيّ، والليث، وسَوّار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر. وكان شُريح لا يرى القضاء على الغائب، وعن أحمد مثله، وبه قال ابن أبي ليلى، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، ورُوي ذلك عن القاسم، والشعبيّ، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر من وكيل، أو شفيع جاز الحكم عليه، واحتجوا بما رُوي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لعليّ - رضي الله عنه -: "إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخَر، فإنك تدري بما تقضي"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يَجُز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يُبطل البينة ويقدح فيها، فلم يَجُز الحكم عليه.
قال: ولنا أن هندًا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، قال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، متفق عليه، فقضى لها ولم يكن حاضرًا، ولأن هذا له بيّنة مسموعة عادلة، فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرًا، وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرًا يقدَّم عليه إذا كان غائبًا، كسماع البينة، وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين، ويفارق الحاضر الغائب، فإن البينة لا تُسمع على حاضر إلا بحضرته، والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
(١) "الفتح" ١٢/ ٢٦٧ - ٢٧١، كتاب "النفقات" رقم (٥٣٦٤).