قال القرطبيّ: ثم اختلف العلماء في الاستثناء بمشيئة الله تعالى، هل يرفع حكم الطلاق، والْعَتَاق، والمشي لمكة، وغيرها من الأيمان بغير الله تعالى، أم لا؟ فذهب مالكٌ، والأوزاعيّ إلى أن ذلك لا يرفع شيئًا من ذلك، وذهب الكوفيّون، والشافعيّ، وأبو ثور، وبعض السلف إلى أنه يرفع ذلك كله، وقَصَر الحسن الرفع على العتق، والطلاق خاصّة.
وسبب الخلاف اختلافهم في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث:"من حلف على يمين، فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء ترك"، وهو حديث صحيح (١)، فحمل مالكٌ، ومن قال بقوله الحديث على اليمين الجائزة، وهي اليمين بأسماء الله وصفاته، بناءً على أنه هو المقصود الأصليّ، واليمين العرفيّ، وحمله المخالف على العموم في كلّ ما يمكن أن يقال عليه يمين.
قال القرطبيّ: والصحيح الأول؛ لِمَا قدّمناه من أن هذا النوع الذي قد أطلق عليه الفقهاء يمينًا، لا يُسمّى يمينًا، لا لغةً، ولا شرعًا؛ إذ ليس من ألفاظها اللغويّة، ولا من معانيها الشرعيّة، كما بيّنّاه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم ..
وقال في "الفتح": واتفق العلماء، كما حكاه ابن المنذر على أن شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفّظ المستثنى به، وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ، وذكر عياضٌ أن بعض المتأخرين منهم خرّج من قول مالك: إن اليمين تنعقد بالنيّة أن الاستثناء يجزئ بالنيّة، لكن نقل في "التهذيب" أن مالكًا نصّ على اشتراط التلفّظ باليمين، وأجاب الباجيّ بالفرق بأن اليمين عقدٌ، والاستثناء حَلّ، والعقد أبلغ من الحلّ، فلا يلتحق باليمين.
قال ابن المنذر: واختلفوا في وقته، فالأكثر على أنه يشترط أن يتّصل بالحلف، قال مالك: إذا سكت، أو قطع كلامه فلا ثُنيا. وقال الشافعيّ: يُشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصْلُه أن يكون نَسَقًا، فإن كان بينهما سكوت انقطع، إلا إن كانت سكتة تذكّر، أو تنفّس، أو عِيّ، أو انقطاع
(١) حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا بإسناد صحيح.