كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلومًا بوضع اللفظ لذلك المعنى، أو عرف الشارع -صلى الله عليه وسلم- وعادته المطردة، أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثّل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا، وأعظم ونسبة استطابة ذلك إليه عز وجل كنسبة سائر صفاته، وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبة وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته عز وجل لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو عز وجل يستطيب الكلم الطيب، فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.
ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله الرضا، فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله (١)، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألةالسابعة): [إن قيل]: ما الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدمِ تحريم إزالة الخُلُوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟.
[قلت]: ذكر الإمام جمال الدين الإسنويّ رحمه الله في "المهمّات" خمسة أوجه من الأجوبة:
(أحدها): أن دم الشهيد حجة له على خصمه، وليس للصائم خصم، يَحتجّ عليه بالخلوف، إنما هو شاهد له بالصيام، وذلك محفوظ عند الله، وملائكته.
(ثانيها): أن دم الشهيد حق له، فلا يُزال إلا بإذنه، وقد انقطع ذلك بموته، وقد كان له غسله في حياته، والخلوف حقّ للصائم، فلا حرج عليه في ترك حقّه، وإزالة ما يشهد له بالفضل.