أصحابه"، فهذه هي العلة، وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسَمِع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنه صَبَر؛ استبقاءً لانقيادهم، وتأليفًا لغيرهم؛ لئلا يتحدث الناس أنه يَقتل أصحابه فينفروا، وقد رأى الناس هذا المصنف في جماعتهم، وعَدُّوه من جملتهم. انتهى كلام القاضي رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ.
(قَالَ) ابن مسعود -رضي الله عنه- (ثُمَّ قَالَ) النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ("يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى) بن عمران عليه السلام (قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ") أي آذاه قومه بأكثر من هذا الإيذاء، فصبر على أذاهم، ففيه تسلية لنفسه -صلى الله عليه وسلم-، وتحريض لأمته على الصبر على الأذى، وذلك امتثال لأمر الله تعالى بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [الأنعام: ٩٠].
[تنبيه]: أشار بقوله: "قد أوذي موسى" إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية [الأحزاب: ٦٩]، وقد حُكِي في صفة أذاهم له ثلاث قِصَص:
[إحداهما]: قولهم: هو آدر، وهو ما أخرجه الشيخان (١) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن موسى عليه السلام كان رجلًا حَيِيًّا سَتِيرًا لا يُرَى من جلده شيءٌ؛ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما بَرَصٍ، وإما أُدْرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يومًا وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتَسَل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجرُ ثوبي حجرُ حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطَفِق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أوأربعًا أو خمسًا، قال: فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)} [الأحزاب: ٦٩].
(١) هذا الحديث متّفقٌ عليه، وأما قول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إنه مما تفرّد به البخاريّ، ففيه نظر لا يخفى، فتنبّه.