وأورع من الذي يعطي، فلما استحال هذا على الإطلاق دون التحصيل بالتفضيل، صحّ أن معناه أن المتصدّق أفضل من الذي يسألها. انتهى (١).
وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة، ولم يوافَق عليه.
وأطلق آخرون من المتصوّفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا، ونقل ابن قتيبة في "غريب الحديث" ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجّون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى مِن فوقُ هو الذي كان رقيقًا، فأُعتق، والمولى من أسفلُ هو السيّد الذي أعتقه. انتهى.
قال الحافظ: وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلّامة جمال الدين ابن نُباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنّ المعنى أن العطيّة الجزيلة خيرٌ من العطيّة القليلة، قال: وهذا حثّ على المكارم بأوجز لفظٍ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله:"ما أبقت غنى"؛ أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدّق بألف، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لوأعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمرّ؛ إذ فيمن يأخذ من هو خيرٌ عند الله ممن يعطي.
قال الحافظ: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق.
وقد روى إسحاق في "مسنده" من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام، قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال:"التي تعطي، ولا تأخذ".
فقوله:"ولا تأخذ" صريحٌ في أن الآخذة ليست بعليا، والله أعلم.
قال: وكلّ هذه التأويلات المتعسّفة تَضمَحِلّ عند الأحاديث المتقدّمة المصرّحة بالمراد، فأولى ما فُسّر الحديث بالحديث.
(١) صحيح ابن حبّان ٨/ ١٥٠ - ١٥١ بتحقيق شعيب الأرنؤوط.