وفي هذا المجال - ثالثًا - ينبغي أن ننظر إلى المكتبة العربية نظرتنا إلى الكتاب الواحد. وذلك لأن كتب أهل العلم عندنا متشابكة الأطراف، متداخلة الأسباب، فمع الإقرار بنظرية التخصص في الإطار العام للتأليف، فإنك قل أن تجد كتاباً من هذه الكتب مقتصراً على الفن الذي يعالجه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى لدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي لا محالة إلى أن تجد الشيء في غير مظانه. وأمامي الآن أمثلة ذوات عدد على هذا الذي أقوله، لا يتسع المقام لذكرها ... وأكتفي هنا بمثالين:
١ - كتاب «دلائل الإعجاز» للشيخ عبد القاهر الجرجاني، يُعدّ أصلًا في علم البلاغة وإعجاز القرآن. وكان مما عالجه في كتابه هذا الرد على من يقولون:«إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، ولكن تظهر بالضم على طريقة مخصوصة».
وقد عرضَّ الشيخ عبد القاهر بأصحاب هذه المقالة في مواضع كثيرة من كتابه، كان منها قوله:«واعلم أن القول الفاسد والرأي المدخول إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة وصيت وعلو منزلة في نوع من أنواع العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته في نوع من أنواع العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا وظهر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره، صار ترك النظر فيه سُنة والتقليد ديناً ... ».
ويسأل شيخنا محمود محمد شاكر - حفظه الله -: من يكون هؤلاء القوم الذي لهم نباهة وصيت ... ؟ يقول شيخنا أبو فهر:«وفتَّشت ونقَّبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتاسيت الأمر كله إلا قليلًا نحو من ثلاثين سنة، حتى كانت سنة ١٣٨١ هـ - ١٩٦١ م، وطبع كتاب «المغني» للقاضي عبد الجبار، المتكلم المعتزلي. في تلك السنة صدر الجزء السادس عشر من كتاب «المغني» فإذا هو يتضمن فصولًا طويلة في الكلام على «ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم»، وفي إعجاز القرآن وسائر المعجزات الظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم. فلما قرأته ارتفع كل شك، وسقط النقاب عن كل مستتر، وإذا التعريض الذي ذكره عبد القاهر حين قال: واعلم أن القول الفاسد