وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يدل هذا الحديث على ما ذكرتم، غاية ما في الباب أن هذا الحديث مشتمل على حكمين مقرونين:
أحدهما: النهي عن بيع الثمر بالتمر.
والآخر: الترخيص في العرايا.
ولا يلزم من ذكرهما مقرونين أن يكون حكمهما واحد، وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما يختلف، ونظائر هذا كثيرة، وقد ذكر أهل التحقيق من الأصوليين: أن من العمل بالوجوه الفاسدة ما قال بعضهم: إن القران في النظم يوجب القران في الحكم، ووجه فساد ذلك: أن ما يجب في الجملة الناقصة لافتقارها إلى ما يتم به، فإذا تم بنفسه لم تجب الشركة إلا فيما يفتقر إليه، وقوله -عليه السلام-: "ورخص في العرايا" جملة تامة لا تفتقر إلى ما تتم به، فلا يطلق حينئذ على العرية أنها البيع.
فإن قيل: حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا" وحديث سهل بن أبي حثمة: "إلا أنه رخص في بيع العرية" يدل على أن العرية بيع ثمر بتمر، وأنه يرد ما قاله أبو حنيفة -ومن تبعه-: إن العرية هي العطية.
قلت: الراوي هو الذي سماها بيعًا لتصورها بصورة البيع لا أن يكون بيعًا حقيقة، ألا تري أنه لم يملكها المعرى له لانعدام القبض، فكيف يجعل بيعًا؟ ولأنه لو جعل بيعًا لكان بيع الثمر بالتمر إلى أجل، وأنه لا يجوز بلا خلاف، فدل ذلك أن العرية المرخص فيها ليست ببيعٍ حقيقة، بل هي عطية.
ص: فإن قال: فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- على خمسة أوسق، وفي ذكره ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه.
قيل له: ما فيه ما ينفي شيئًا مما ذكرت، وإنما يكون ذلك كذلك لو قال رسول الله -عليه السلام-: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق، فأما إذا كان الحديث إنما فيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو فيما دون خمسة أوسق فذلك يحتمل أن يكون النبي -عليه السلام- رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا