للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بنبوته مصدّقا، ولرسالته محقّقا: الخبر الذى أخبره، أم الفعل الذى صدّقه، لئن نظرت بعقلك، وقلت فى نفسك: كيف ترقّت إلى هذا نيّته، وارتفعت نحوه همّته، أم كيف امتدت إليه فطنته، وقويت عليه رويّته؟ بل كيف دعته إليه نفسه، وشجّعه عليه قلبه، ودخل فيه طمعه، وطاوعه فيه لسانه، وهو يذكر جنود كسرى، وجموع الروم، وملوك التّرك، وملوك الشّرك، وقيول (١) اليمن، وصناديد الأمم؟

إن هذا لعجب، ولا سيما إذا لم يكن فى إرث ملك قاهر، ولا كنف عزّ غالب، ولا معدن علم سالف.

ولئن أعدت النظر وكرّرت، فقلت: كيف وافق خبره أثره، وكيف صدّق فعله قوله، حتى غلب الشرق والغرب؟ إن هذا لعجب! وأعجب من هذا أمر يدلّك أمير المؤمنين عليه، ويهديك إن شاء الله إليه، لو قلت لأهل مملكتك ومن قبلك من أمتك: هل بلغكم أو تقرّر قبلكم، أنه كان فى الدهر الأول، والعصر الخالى، أحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم: بدأت الأمور به مثل حاله، من الوحدة والضعف والذّلّة والقلّة، وصدرت الحال به كفعاله، فى الغلبة والمنعة والقهر والظهور، وغير ذلك؟ لقالوا: لا.

ثم أنت لا تؤمن بمقالته، ولا تقرّ برسالته، إلفا لدينك، وضنّا بملكك، وطمعا فى قليل من الدنيا قد نعاه الله إليك، ورغبة فى صبابة عيش غير باقية فى يديك، فهذا عجب، وأعجب من هذا أمر نقفك أمير المؤمنين على نور حقه، ويوضّح لك إن شاء الله بيان أمره: أصبحت العرب طرّا والأمم جميعا فى محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا رابع لهم، ولا مخرج للحق من بينهم: رجل مصدّق به من المؤمنين، ورجل مكذّب به من الكافرين، ورجل شاكّ فيه من المنافقين.

فأما الشاكّ فلمّا قيل له: أخرجت نفسك من الحق، وأبرأتها من الصواب،


(١) القيول: جمع قيل بالفتح، وهو: الملك من ملوك حمير.

<<  <  ج: ص:  >  >>