للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن عرض لنظرك، أو وقع فى خلدك، أن الله عز وجل عوّد محمدا صلى الله عليه وسلم الغلبة، وأجراه على المنعة، فكان يجرى على عادة قد عرفها، ويسلك جادّة قد خبرها، فلقد كانت الهزيمة فى أول وقعة أوقعها الله، ثم لقد دالت الحرب فيما بعد سجالا (١) فيما بينه وبينهم، تارة عليه لهم، وأخرى له عليهم، فناصحوا الله عز وجل فى نظركم، وقلّبوا فيما يقول أمير المؤمنين فكركم، فلعمر الله ما كان النبى صلى الله عليه وسلم ليقول لملوك المشركين: إن الله هزمكم برمية من تراب، وهو يعلم أنه عنده من الكاذبين، فأحضر كتابى هذا فهمك، واصبر له، وإن خصمك، فإن هذه آية عظيمة، وحجّة بليغة، وبيّنة عجيبة، فى غلبة العرب.

وأعجب من هذه وألطف، وأكثر منها وأعظم، الآية فى غلبة العجم، واستمع:

أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين- وكانوا كما قال الله عز وجل قليلا مستضعفين-: إن قبائل العرب ستتحزّب عليكم، وإن الله سيهزمهم لكم، وحيا أنزله فى الكتاب، فقال: «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما نزل هذا القول عليه بدهور طويلة، وسنين كثيرة، محبوسين محصورين فى حومة الموت، وعسكر الخوف، وخندق القهر، وذلّ الحصر، سوادهم الأعمّ، وجلّهم الأعظم: حفاة عراة عالة (٢)، إخوان دبر (٣)، وأصحاب وبر، لا قوة بهم، ولا منعة لهم، ولا أسلحة عندهم، ولا عدّة معهم، قد أحدقت العرب بعسكرهم، وأحاطت القبائل بخندقهم، وسالت الأحزاب تصديقا لحتم الله عليهم، تريد أن تزلزل أقدامهم، وتهريق دماءهم، فكان المؤمنون كما وصف الله عز وجل من سوء الحال، وضيق المآل، وشدة الكظاظ (٤)، فإن الله قد


(١) فى الأصل «فيها بعد» وسجال جمع سجل بالفتح: وهو الدلو العظيمة مملوءة، ويقال: الحرب بينهم سجال: أى سجل منها على هؤلاء وآخر على هؤلاء.
(٢) عالة جمع عائل: وهو الفقير.
(٣) الدبر: قرحة الدابة، والمعنى أنهم مجهودون كالبعير الدبر.
(٤) الكظاظ: الشدة والتعب والممارسة الشديدة فى الحرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>