للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يذوق العيش، أو يجد لذيذ النعيم، من حرّم السّكر والخمر، ونهى عن الدّيباج والقزّ وكان أكثر دهره صائما، وأطول ليله قائما؟ فإن قالوا: طلب الصّوت (١) ورغب فى الدين، فذلك ما لم يطلبه أحد فى حب الصوت، والتماس الحمد، لما صبر على مغاضب قومه، وملاوم أهله، وشتائم العرب، وتوعّد العجم، واستهزاء قريش:

يرمونه بالعقوق، ويقذفونه بالجنون، ويبهتونه (٢) بالسحر، وليس يدرى ما يهجم (٣) به الأمر.

أم يقولون: طلب تأثيل (٤) الملك لقومه، وأراد توطئة الولاية لأقاربه، فكيف يطلب لقومه ما قد زهد فيه لنفسه؟ أم كيف يطلب لهم عزّ الملك، وقد أوطأهم الذّلّ ثم القتل؟ لعمر الله أن لو أراد الملك لأقاربه، وأراد طلب السلطان لذوى رحمه، لوكّد لهم عقدا لا يحلّ، ولأبرم لهم أمرا لا ينقض، ولأثّل لهم فى عنفوان (٥) أمره ملكا لا يخرج من أيديهم، ولا يبرح (٦) أبدا فيهم، امتثالا لصنيعكم، واحتذاء على مثالكم، مع أقاويل جمة، ونظائر كثيرة، لا يستقيم لهم معها أن يقولوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم غلب العرب وقهر العجم، أو قال فى أمر السلطان والنجوم بكذب.

فإن قلتم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم، كان فى قوة عقله، وبيان فضله، على ما قلنا وقلتم، وصدّقنا به نحن وأنتم، ولكن هفت العلماء، وزلّت الحكماء، وأخطأت القلوب، فقد يعلم أمير المؤمنين- وأنتم بذلك من العالمين- أنّ خطأ قلوب العلماء كخطأ دائرة الرّحى: ليست العلماء بمخطئة إلا المرة والثنتين، كما لا تخطئ الرحى إلا الحبّة والحبتين، ومثل الذى نسبتم إلى النبى صلى الله عليه وسلم من الخطأ عندكم،


(١) الصوت والصيت: الذكر الحسن.
(٢) بهته كمنعه: قال عليه ما لم يفعل.
(٣) أى ما ينجلى عنه الأمر، من نجاح وفوز، أو خذلان وفشل.
(٤) أى تأصيله وتعظيمه.
(٥) أى فى أوله وحداثته.
(٦) فى الأصل «ولا ينوح» وهو تحريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>