للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعقّبوا من قوله، وعرفوا من صدقه، ولولا أنه أخبرهم ووعدهم أن يغلب كسرى وقيصر لهم، فصدّقوا بقوله وآمنوا بوعده، حتى قويت البصائر، وصرمت (١) العزائم وقويت النّيات، فنشطت النفوس، وشجعت القلوب، وحمّلت الأبدان، لما وقع لهم طمع فيه، ولا ذهب لهم وهل (٢) إليه، فكن من ذلك على يقين لا يخلجه (٣) شك، ومعرفة لا يخلطها ريب إن شاء الله.

ومن ذلك: أنه إذا قال المسلمون: ما من فعال محمود، ولا مقال معروف، ولا خلق كريم، ولا أدب فاضل، إلا وقد أدّب الله عز وجل به محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزله فى الكتاب إليه، فكان يأمر بالمكارم، ويحضّ على المحامد، ويعمل بالمحاسن التى ليس فيها مدخل لشبهة طاعن، ولا معلق لحجّة قائل، ولا مغمز لبصيرة عائب، ولا موضع لخصومة بشر، فى وعد أو عهد، أو حلّ أو عقد، أو مقال أو فعال، أو غير ذلك من الأمور، قالوا: أمور حمل عليها نفسه، ودعاه إليها عقله، وصبر عليها، لما أمّل ورجا فيها، سبحان الله! وما أمّل بها وارتجى منها؟ إن قالوا: الدنيا، فلقد أكذبهم إدباره عنها، حيث أمكنته القدرة منها، وأعثرته الحال عليها، وإن قالوا:

حبّ الأثرة، فقد جعل نفسه للمسلمين أسوة: فى سهامهم (٤) وقصاصهم (٥)، وحدودهم وحقوقهم، وغير ذلك من أمورهم، وإن قالوا الملك، فلقد كان أشدّ الناس لربه تواضعا، وأعظمهم فى جنبه تصاغرا، ما إن أكل متّكئا قطّ إلا مرّة، ثم قعد كهيئة الفزع لها النادم عليها، فقال: «اللهم إنّى عبدك ورسولك»، وإن قالوا:

النعيم، فمن كان أببس منه معاشا، وأخشن رياشا (٦)، وأغلظ مأكلا؟ وكيف


(١) عزيمة صارمة: أى ماضية.
(٢) وهل إلى الشىء يوهل بفتحهما ويهل بالكسر وهلا بالسكون: ذهب وهمه إليه.
(٣) خلجه كضربه: حركه وجذبه وانتزعه.
(٤) جمع سهم بالفتح: وهو الحظ والنصيب.
(٥) وفى الحديث «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».
(٦) أى لباسا، وأصل الرياش: اللباس الفاخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>