للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها: أنه إذا قالت الفقهاء والحكماء: أتانا محمد صلى الله عليه وسلم بكلام لم تسمع الآذان بمثله، ولم تقع القلوب على لغته، له رونق كحباب (١) الماء، وزبرج (٢) يعلو ولا يعلى، وعجائب لا تبلى ولا تفنى، وجدة لا تتغير، قالوا: كان محمد صلى الله عليه وسلم أبلغهم قولا، وأحسنهم وصفا، فيا سبحان الله! ألا يعلمون أن لو كان القرآن كلاما للعباد، لما أقرّت الأعداء من [العرب (٣)] بفضله، ولا عجزت القبائل طرّا عن مثله، وهو يناديهم فى الكتاب، ويتحدّاهم فى الوحى، بصوت رفيع، ونداء سميع، فيقول: «هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» * وهم فرسان الكلام، وإخوان البلاغة، وأبناء الخطب، وأهل عداوة له وبغى عليه، فتستحسر (٤) الأبصار، وتثقل الأسماع، وتنعقد الألسن، وتخرس الخطباء، وتعجز البلغاء، وتحار الشعراء، وتستسلم الكهّان، ثم لقد قايست البصراء بالكلام والعلماء بالمنطق بين ما بأيدينا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من كلام الوحى، فإذا بينهما بون (٥) بعيد، وتفاوت شديد، ليس بشبه له ولا مدان ولا قريب، وكذلك ينبغى لكلام الرب عز وجل أن يعلو كلام الخلق، وألّا يشبه قول العباد فى تأليفه وأحاديثه ومعانيه وجميع ما فيه؛ لأن الله عز وجل لا يشبهه شىء من ذلك، إنه إذا قال المسلمون: كان محمد صلى الله عليه وسلم يرى ماضى أسلافنا، وصلّح آبائنا، من العجائب العظام، والآيات الكبار، ما هو جديد عندنا، بيّن قبلنا، فلم يعف أثره، ولم يدرس خبره، ولم يتقادم عهده: من شجرة ناداها فأقبلت، ثم أمرها فرجعت، ومن نحو بعير تظلّم، وذئب تكلّم، وأشباه لذلك كثيرة، ونظائر له عجيبة، قالوا: كان محمد صلى الله عليه وسلم كاهنا حاذقا، وساحرا ماهرا، يشبّه بالخيال، ويأخذ بالأبصار،


(١) حباب الماء: فقاقيعه التى تطفو كأنها القوارير.
(٢) الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر.
(٣) فى الأصل بياض محل هذه الكلمة.
(٤) استحسر: أعيا.
(٥) البون: الفضل والمزية.

<<  <  ج: ص:  >  >>