للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما أمره الله عزّ وجل أن يحتجّ عليهم، ويقول فى ذلك لهم: لقد لبثت فيكم عمرا من قبله، لا أتلو قرآنا، ولا أدعى وحيا، أفلا تعقلون!

وأيم الله لو كانوا يعقلون أو ينظرون، لعلموا أن معلّمه على غير الملّة التى يعرفون لأنه لهم من المخالفين، وعليهم من الطاعنين، يذكر فضائح قولهم، ومعايب أمرهم، ومخازى أسلافهم، وعوائر (١) أديانهم، وأنه لو كان معلّمه نصرانيا لدعاه إلى النّصرانية أو يهوديا لدعاه إلى اليهودية، أو مجوسيّا لدعاه إلى المجوسية، ولو لم يكن له معلّم لما وقع على الحقيقة، هداية من تلقاء نفسه، ومعرفة بقوة عقله؛ ولو كان معلّمه الشيطان لما دعاه إلى عبادة الرحمن، ولا أمره بهجر الأوثان، وكسر الأصنام، وصلة الأرحام، والإصلاح فى الأرض، كيف وكان الشيطان يصدّ الناس عن سبيله، ويزهّدهم فى دينه وينهاهم عن طاعته، ويخرجهم من عبادته، ويدخلهم فى مساخطه، ويحملهم على معاصيه؟

إنه إذن لرحيم بهم، ناظر لهم، شفيق عليهم، كأنه هو المبعوث إليهم، كلا، ما كان لينقذهم من حبائله، ويخلّصهم من مصايده، ويخرجهم من ولايته وطاعته وسلطانه وخدعه وفتنته وحزبه، إلى غير ذلك من أمره، وما كان لينهى العرب أن يقتلوا أنفسهم، ويتناوحوا حرمهم، ويؤذوا ذريتهم، ولا ليقول لهم: لم تعبدون نحيت الحجارة التى جعلها الله لكم عارا، وتذرون عبادة الربّ الذى خلقكم أطوارا! هيهات! لقد ذهبتم بالشيطان الرجيم إلى صراط العزيز الحكيم، فقلتم قولا تنكره العقول، وتدفعه القلوب، وتستوحش منه النفوس، ألا تسمعون إلى قول الله عزّ وجل: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» فما كان الشيطان ليرضى للعرب باللّعنة والبكم، والعمى والصّمم، فاتّق الله ولا تكن من الجاحدين.


(١) أراد بها مثالبها ومخازيها، وفى كتب اللغة: العوراء: الفعلة القبيحة (غير أن فعلاء لا يجمع على فواعل) وفيها: العوائر جمع عائر، والعائر من السهام والحجارة: الذى لا يدرى من رماه، أصابه سهم عائر فقتله: أى لا يدرى من رماه.

<<  <  ج: ص:  >  >>