للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المكذبين له بغباوة، أو يرمونه بجهالة، وهم يجوزون به حدود الأنبياء، ويرفعونه فوق أمور العلماء، ويتخطّون به مراتب الحكماء ومنازل الناس، تكثيرا لعلمه، وتسديدا لعقله، وتثبيتا لفضله، فيما لا يقدر الخلق عليه، ولا تهتدى الألسن إليه، حتى لقد نحلوه (١) فعل الرّبّ الذى لا يقدر عليه الخلق فى وجوه كثيرة، وأنحاء جمة.

من ذلك أنه إذا قالت البقايا من أمتنا: كان محمد صلى الله عليه وسلم يخبرنا بالغيوب قبل ظهورها، ويصف الأمور قبل حلولها، ويتجاوز ما يكون فى زمانه من ذلك إلى ما يكون فى زماننا، غيبا أطلعه الله عزّ وجل عليه، أضافوا ذلك علما إليه، فقالوا: كان أعلم الناس بمواقع النجوم، وأبصرهم بمنازل البروج، وأنظرهم فى دقائق الحساب، كيف ولم يكن الحجاز دار نجوم، ولا محلّ حساب، ولا معدن أدب، بل كيف والمنجّم يقيس ويخطئ، ويشكّ فيما يدّعى، وهو أخو صواب لا شكّ فيه، وفارس صدق لا قياس معه.

ومن ذلك أنه إذا قالت العلماء من المسلمين: كان نبينا صلى الله عليه وسلم عليما بباطن أخبار النبيين، وخفىّ قصص القرون الأوّلين، قالوا: كان أحيا الناس قلبا، وأوسعهم سربا (٢)، وأسرعهم أخذا، يتتّبع ذلك ويحبه، وقد رواه وعلّمه، سبحان الله! أولا يعلمون أن المتعلّم معروف المعلّم، متفاوت الحالات، متنقّل الطّبقات؟ وأنه ما أحد يؤدّب صغيرا أو يطلب العلم كبيرا، إلا وله درجات فى علمه، وتارات فى أخذه، ومنازل فى تعلّمه، تارة تلميذ، وتارة مقارب، وأخرى حاذق، وبكل ذلك موصوف من أهله، معروف عند قومه، ظاهر لجيرته، مستفيض فى عشيرته، لا يجهل أمره، ولا يخفى ذكره، ولا ينسى عند مواضع الحاجة إليه، وتارات الاحتجاج به عليه، ولو كان ذلك معروفا فيهم، أو موجودا لديهم، أو ظاهرا عندهم،


(١) نحلوه: أى نسبوا إليه.
(٢) السرب: البال، والقلب والنفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>