للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيته دنية (١) الذين كانوا يستغرّونه (٢) بكل طريق، ويقعدون له على كل سبيل، ويتساءلون من أمره عن كل ذى حادث، فيتعلّقون بالحروف المشكلة، والآيات المشتبهة، جدلا وخصومة بها، وطعنا وإلحادا ومنازعة فيها، حتى لقد وصفهم الله بفعلهم، وأخبر عن ذلك من أمرهم، فقال عز وجل: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٣)» وما كان الله عز وجل ليقول ذلك ولا لأحد أن يقوله على الله فى أمرهم، إلا عن خصومة شديدة، ومنازعة بليغة، ومجادلة معروفة، فأحسن النظر لنفسك، ولا تهلكنّ شفقة على ملكك، فأيم الله لئن قلت: إن النجوم شىء كانت العرب تراه بعيونها، وتعرفه بقلوبها، فما كان محمد صلى الله عليه وسلم وهو عارف بها غير جاهل لها، ليقول فيها إلا حقّا، وينتحل فيها إلا صدقا، لقد ثبّتّ فروع كلامك فيها على أسّه، ووصلت آخر قولك له بأوله، ثبوتا على ما ذكرت من عقده، ولزوما لما فرّطت من نظره، ولكنك لا تجد مع الإقرار بذلك بدّا من التصديق برسالته، ولا مذهبا عن الإيمان بنبوّته.

ولئن زعمت أنه ادّعى أمر النجوم كذبا، وانتحلها باطلا، عارفا كان بها أم جاهلا، لقد نسبته من الخطأ الذى لا يعمى عن بصره إلى ما يخطئ فيه بشر، فأكذبت نفسك، وتركت قولك، إنه لم يكن التأليف لقلوب العرب، والجمع لشتيت القبائل، إلا برأى سديد، وعقل أصيل، ورفق بالغ، إلى أحد أمرين، لا تجد لكلامك وجها تذهب إليه غيرهما، ولا محملا تضعه عليه سواهما: إما أن تقول:

إنه ألّف قلوب العرب، وفرّق جموع الأمم، بتنزيل الوحى، فتؤمن أنه نبىّ، وإما أن تقول: فعل ذلك بجهل، وهذا قول لا يقبل، كيف يصفه أحد من الجاحدين به


(١) يقال: هو ابن عمى دنية بالكسر ودنيا بالكسر والضم: أى لحا.
(٢) فى الأصل «يستعيرونه بكل طريق» وهو تحريف، وقد أصلحته كما ترى، واستغر فلانا:
أتاه على غفلة، والمراد: يتعرضون له بكل طريق ويؤذونه على غرة.
(٣) الخصم: المجادل.

<<  <  ج: ص:  >  >>