للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا تصوّرت البيّنات مجسّدة فى قلبك، وتبيّنت الحجج ممثّلة لنظرك، قد أضاء صوابها لك، وقرع حقّها قلبك، فاجعل القول بها شعارا للّسان به متصلا، وافهم المسألة، فهّمك الله الحقّ، وجنّبك الجحد، ما تقول أنت ومن قبلك فى رجل كان يتيما ضعيفا أجيرا ساهيا لاهيا عائلا (١) خاملا، لم يتل كتابا، ولم يتعلم خطّا، ولم يك فى محلّة علم، ولا إرث ملك، ولا معدن أدب، ولا بيت نبوّة، فتراقت الأيام به، واتصلت الحال بأمره، حتى خرج إلى العرب عامّة، والقبائل كافّة، وحيدا طريدا شريدا، مخذولا مجهولا، مجفوّا مرميّا بالعقوق لآلهتهم، مقذوفا بالكذب على أصنامهم، منسوبا إلى الهجر لأديانهم، وهم مجمعون على دعوة العصبيّة، وحميّة الجاهلية، متعادون متباغون، مختلفة أهواؤهم، متفرّقة أملاؤهم (٢)، يتسافكون الدماء، ويتناوحون (٣) النساء، ويستحلّون الحرم، لا تمنعهم ألفة، ولا تعصمهم دعوة، ولا يحجزهم برّ، فألّف قلوبها، وجمع شتيتها، حتى تناصرت القلوب، وتواصلت النفوس، وترافدت (٤) الأيدى، ثم اجتمعت الكلمة، واتفقت الأفئدة، حتى صار غاية لملقى رحالهم، ونهاية لمنتجع أسفارهم، وصاروا له حزبا متفقين، وجندا مطيعين، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها بينهم، ولا سلطان له عليهم، ولا ملك سلف لآبائه فيهم، ولا نباهة كانت له بين ظهرانيهم، أتقول: إنه ما قال ذلك كله إلا بوحى عظيم، وتنزيل كريم، وحكمة بالغة؟ فإن قلت ذلك فقد أقررت أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول، وتركت ما كنت تقول إنه لم يدركه ولم يبلغه إلا بعقل سديد، ونظر بعيد، ورفق لطيف، ورأى وثيق، استبى به عقول الرجال، واستمال عليه أفئدة العوامّ، فإن قلتم ذلك، فأنا سائلكم بإلهكم الذى تعبدون،


(١) عائلا: فقيرا.
(٢) الأملاء: جمع ملأ كسبب، وهو الجماعة.
(٣) تناوح النساء: أن يقابل بعضهن بعضا إذا نحن، وكذا تناوح الرياح: إذا تقابلت فى المهب لأن بعضها يناوح بعضا.
(٤) ترافدت: تعاونت.

<<  <  ج: ص:  >  >>