= على ترك هذا الضابط بدون تقدير؛ لأن الزمن هو الكفيل بتقديره لاختلاف الأعراف باختلاف الأزمان، فما يعد غبناً فاحشاً في عصر قد يكون غير فاحش في عصر آخر. وهذا مسلك وجيه ما داموا قد عرفوا الغبن الفاحش بما لا يتغابن بمثله في العادة أو بما لا يدخل تحت تقويم المقومين. وقليل من الفقهاء هو الذي قدره بقدر مخصوص وسع ذلك فقد اختلفوا في التقدير. فبعض المالكية والحنابلة قدره بالثلث فأكثر، وقدره بعض آخر بالسدس فما فوق. ويروى عن محمد بن الحنفية أنه قدره بما زاد عن نصف عشر القيمة. وقدره نصر بن يحيى منهم أيضاً بما زاد عن نصف العشر في العروض وعن العشر في الحيوان وعن الخمس في العقار وفي كل ماله سعر محدد بما زاد عنه أو نقص. وأساس اختلاف هذه التقديرات هو اختلاف المقومين في تقدير قيم السلع فإنهم يختلفون في العقار كثيراً، وفي الحيوان قليلاً، وفي العروض أقل، وما له سعر محدد فلا اختلاف فيه. ومن هذا يظهر أن نصر بن يحيى راعى في تقديره عرف التجار في بيعهم وشرائهم، فماذا عليه لو ترك الأمر لهم فإن الأنظار في هذا تختلف باعتبار الزمان والمكان؟ وقد اعترض الجصاص فيما روي عن محمد من التحديد فقال -إنه لم يخرج مخرج التقدير في الأشياء، كلها لأن ذلك يختلف باختلاف السلع، ومنها ما يعد أقل من ذلك غبناً فيه، ومنها ما لا يعد أكثر من ذلك غبناً فيه-. وأما من حدده بالثلث مستدلاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" فقد أغرب لأن الحديث في الوصية، وليس في محل النزاع فضلاً عن أنه يلزم أن يكون التقدير بالثلث حينئذ تقديراً شرعياً والكل متفق على أن مبنى الغبن الفاحش هو العرف والعادة. ولا أعلم حجة وجيهة لمن قدره بالسدس. هذا ولو تصرف المغبون في المبيع بعد علمه بالغبن سقط حقه في الرد ووجب عليه إمساكه بالثمن المتفق عليه. قال شيخنا الشيخ مندور آراء الفقهاء في خيار الغبن تتلخص في مذهبين اثنين؛ مذهب ينكره ويرى عدم مشروعيته، ومذهب يعترف به ويرى مشروعيته في الجملة. وهذان المذهبان قد تجاذبا في الاستدلال قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله -صلى الله عليه وسلم- لحبان بن منقذ: "إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خُلاَبَةَ ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالخِيَارِ ثَلاَثاً". أما الآية فأظهر وجوهها يدل للقائلين بعدم مشروعية خيار الغبن؛ لأن المدار في الرضا هو الرضا الموجود وقت العقد وهو موجود منهما معاً. وقد بينا فيما سبق أن لا عرف قائم على شرط عدم الغبن في البيع حتى يكون ملحقاً بالعيب. وأما الحديث فقد تكلمنا فى رواياته في خيار الشرط بما لا مزيد عليه. والذي نريد أن نقوله هنا هو أن هذا الحديث يدل أيضاً لمن ذهب إلى عدم مشروعية خيار الغبن. نعم يدل على المشروعية من وجه آخر غير وجه محل النزاع، وذلك فيما إذا شرط العاقد عدم الخلابة في البيع أو الشراء كما هو نص الحديث حيث يكون للمغبون من العاقدين -والحال ما ذكر- حق فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له ما شرط من عدم الغبنة. فإذا مضت ثلاثة أيام، ولم يفسخ البيع سواء علم بالغبن أو لم يعلم به سقط هذا الحق، وأصبح البيع لازماً في حقه لا يجد عنه انفكاكاً إلا من عيب يتبينه فيما بعد. فالثلاثة الأيام تأقيت من الشارع الخيار الثابت لمن شرط عدم الخلابة في البيع. أي أنه ليس على العاقد إلا أن يقول عند البيع لا خلابة، فيكون له بموجب هذا الشرط الخيار ثلاثاً، وليس بضروري أن بشرط للخيار ثلاثاً، فرواية الاشتراط منكرة لا أصل لها. ومثل الخلابة فيما ذكر الغبن والخديعة وما جرى هذا =