للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= يجعل له الرسول الخيار لمجرد الغبن، وإنما الذي جعله له هو الخيار إذا شرط عدم الغبن أو الخديعة، وهذا شيء آخر غير محل النزاع. وأما المعقول فقالوا الفرض أن المبيع سليم، ولا تدليس من البائع فيه، فيكون البيع صحيحاً لازماً، والغبن الواقع على أحد العاقدين إنما كان نتيجة تقصيره أو تهوره في أمر يتطلب الأناة والروية، وجرى العرف فيه على المكايسة والحذق والمهارة في استلاب العاقد، واستدراجه إلى عقد الصفقة على وجه يكون له فيه الحظ الأوفر. وإذا فالغبن مفروض حصوله في البيع، ولا عرف قائم على الرد به حتى يلحق بالعيب. إلا أن الحنفية قالوا إذا ثبت أن البائع أو الدلال قد غر المشتري مثلاً حتى غبنه غبناً فاحشاً فإن الرد يكون جائزاً له حينئذ، كأن يقول له لقد أعطيت في هذه السلعة كذا وكذا فما رضيت وصدقه المشتري في قوله وهو من الكاذبين لتغريره به حينئذ وفريق من المالكية وهم البغداديون جعلوا للمغبون الخيار إذا كان الغبن بمقدار ثلث القيمة فأكثر، لقوله -صلى الله عليه وسلم- للذي أراد أن يوصي بماله عند الوفاة: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" فدل على أن الثلث كثير، ومن شأن الكثير أن تشح به النفوس، وعلى أن ما دون الثلث قليل، ومن شأن القليل أن تجود به النفوس. هذا وأما الحنابلة فأثبتوا الخيار من أجل الغبن في ثلاث صور:
الصورة الأولى: تلقي الركبان.
والصورة الثانية: النجش في البيع.
أما الصورة الثالثة: وهي المسترسل بالبيع أو الشراء إذا غبن غبناً فاحشاً فهي موضوع كلامنا الآن. والمسترسل عندهم هو الجاهل بقيمة السلعة، ولا يحسن مع ذلك المبايعة. وقال أحمد -رضي الله عنه-. المسترسل الذي لا يحسن أن يماكس. وفي لفظ: الذي لا يماكس. فكأنه استرسل إلى البدع مثلاً فأخذ ما أعطاه من غير مماكسة ولا معرفة بغبنه. وعلى ذلك فمذهبهم قريب من مذهب ابن حزم، إلا أنهم يزيدون عليه أن يكون العاقد مع ذلك لا يحسن المبايعة لالتماس عذر له في غبنه، ولأن من غبنه حينئذ استغل عدم معرفته فزاد السعر وضلل عليه.
ثم الفقهاء: قاطبتهم على أن الغبن اليسير لا يثبت للمغبون حق فسخ البيع بل عليه إمضاؤه بالثمن المتفق عليه؛ لأن مثل هذا الغبن لا بد منه في غالب البيوع التي تراد للغنم والربح. أما الغبن الفاحش فهو الذي يثبت للمغبنون حق الفسخ عند من ذهب إلى جواز الفسخ به، فإن لم يفسخ لم يكن له الحق في المطالبة بمقدار ما غبن به بل يمسكه بالثمن المتفق عليه. وأما ما هو الغبن الفاحش! فقد اختلفوا في تفسيره، فهر عند الحنفية ما لا يدخل تحت تقويم المقومين. وعند الشافعية ما لا يحتمل غالباً أو ما لا يتغابن التجار بمثله في العادة، وهو قريب من الأول. وعلى كل حال فتعريفا الحنفية والشافعية قريبان من بعضهما؛ لأن ما يدخل تحت تقويم المقومين من شأنه أن يحتمل غالب وما لا يحتمل في الغالب لا يدخل تحت تقويم المقومين. نعم يفترق المذهبان في بعض الصور؛ بأن يكون الغبن لا يدخل تحت تقويم المقومين، ولكنه يزيد عن تقويمهم شيئاً يسيراً كواحد في عشرة مثلاً، فإنه يكون غبناً فاحشاً عند الحنفية وغير فاحش عند الشافعية لكونه يفتقر غالباً، وإذ قد عرفت معنى الغبن الفاحش سهل عليك معرفة الغبن اليسير فإنه مقابل له. والمراد بالمقومين أهل الخبرة بالبياعات ممن يغشون الأسواق، ولهم معرفة بالسلع والأسعار وبالأخص السلعة موضوع العقد. وأكثر الفقهاء =

<<  <  ج: ص:  >  >>