الثالث: أن الاستقالة باتفاق لا بد فيها من رضا الطرفين، والنهي عن مفارقة المجلس خشية الاستقالة يدل على أن لصاحبه أن يقبله بدون رضاه، وهذا لا يكون إلا في الخيار فحملت الاستقالة عليه. وأما استدلالكم بحديث ابن عمر -رضي الله عنه-: "كنا مع النبي في سفر فكنت على بكر صعب لعمر ... الحديث" فيرد عليه أنه -وإن لم يحصل تفرق- فمن الجائز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- خير عمر، وليس بلازم أن يذكره الراوي، كما أنه لا يذكر الثمن مع أنه لا بد منه هكذا قال بعضهم، وفيما قاله نظر؛ لأن الثمن ركن من أركان البيع فذكر البيع وحده متضمن لذكره، وليس كذلك التخيير. ولأن هذه القصة لا يخلو أمرها من أن تكون قبل حديث الخيار، فيكون قد نسخها أو بعده، فيكون الخيار معلوماً غير محتاج للنص عليه من الراوي. وأفضل من هذا أن يقال لو فرض وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يخير عمر، فتصرفه بالهبة بعد البيع لا يدل على نفي خيار المجلس؛ لأنه أنس الرضا من عمر بدليل أنه كان يود أن يهبه البكر بدون مقابل. وأما قولكم نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر، ومن الغرر أن يثبت لهما خيار لا يعرفان متى ينتهي؛ فمردود بأنه -وإن كان مجهول الأمد- لكن لكل واحد منهما أن يخير صاحبه فيختار إما إمضاء البيع، وإما فسخه. فما عليه إن كان يريد إمضاءه إلا أن يمشي بضع خطوات فينقطع الخيار، ويلزم البيع الطرفين. فمثل هذه الجهالة اليسيرة مفتقرة شرعاً؛ لأنها لا تفضي إلى نزاع، ولا توقع في ضرر لا مخرج منه سيما والعادة قاضية بأن مجلس العقد لا يدوم طويلاً، بل هو فترة وجيزة يتفرقان بعدها، فقول أبي حنيفة -رحمه الله- أرأيت لو كانا في سفينة -فهو- فضلاً عن كونه معارضة للحديث بالرأي من الصور النادرة على أن لهما مخرجاً آخر غير التفرق هو التخيير. وعلى هذا فخيار المجلس يفارق خيار الشرط إذا كان مجهول الأمد؛ لأنه قد يطول فيفضي إلى المضارة والشحناء، وليس في مقدور واحد منهما أن يلزم البيع بفعله في كل حَال كخيار المجلس. هذا وأما استدلالكم بأثر عمر -رضي الله عنه- البيع صفقة أو خيار -فهو- فضلاً عن كونه لا يعارض الحديث لأنها أحق منه بأن تتبع ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفضلاً عن أن جماهير الصحابة على خلافه، وفضلاً عن كونه غير مروي عنه من طريق تصح، وفضلاً عن كونه روى عنه هو نفسه ما يخالفه -فضلاً عن هذا كله هو غير معارض للحديث بل مؤول بما يوافقه. فقد أوله ابن حزم بما يوافق مذهبه من أن البيع غير صحيح حتى يكون التفرق أو التخيير حيث أول الصفقة بما تم من البيع بالتفرق، والخيار بما تم منه بالتخيير. وأوله صاحب المغني من الحنابلة بأن البيع نوعان نوع شرط فيه الخيار، ونوع لم يشرط فيه، وهو الصفقة، وهذا لا ينافي ثبوت خيار المجلس، لأنه يثبت بغير الشرط. وسماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه فكأنه تم بمجرد التصافق. والآن وقد فرغنا من مناقشة أدلة النافين من الكتاب والسنة، فما علينا ألا أن نناقش أدلتهم من المعقول. فأولاً: يرد على قياسهم البيع على النكاح بأنه قياس مع الفارق؛ لأن المال غير مقصود في النكاح لذاته بخلاف البيع والمال هو الذي عهد فيه المكايسة والشح لأن البيع ينقل ملك الرقبة، والنكاح لا يبيح إلا ضرباً من الانتفاع، وملك الرقبة أقوى، فالاحتياج فيه إلى التروي =