للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرسول بجمعه في مثل حديث العرباض " عضوا عليها " ولا يفرقون .. لكن لما فصلت أحاديث النبي في كتب مجردة عن سنة الخلفاء الراشدين المهديين، سبق إلى أفهام ناس بعدُ أن رواية الحديث تغني عن النظر في فقه الصحابة، واستثقلوا الأدلة الآمرة باتباعهم، وخفوا إلى ما أحدثته الخوارج من قبل أن "هم رجال ونحن رجال" ثم تنكروا لهم! (١) فأحدثوا وتوسعوا .. وما من محدثة إلا هي آخذة بيد أختها، وما تُركت سنة إلا سَبَقت إلى مستقرها بدعةٌ. وما حدثت بدعة إلا ازدادت مضيا ولا تركت سنة إلا ازدادت هويا كما قال عبد الله بن عمرو، وإن ذهب سوادهم فقد بقيت أهواؤهم، كمحدثة الخوارج أن هم رجال والصحابة رجال ما ازدادت إلا مضيا حتى دخلت في كتب الأصول وقالوا: أقوال الصحابة ليست حجة!

ولما ظهر تقليد الرجال مع نهيهم عنه! ذهب من الناس تعظيم كلام الله ورسوله والاحتكام إليه واعتقاد كماله ونفعه وشفائه .. وعدلوا عن اتباع أصحاب رسول الله والبحث عن فتاواهم .. وزهدهم الشيطان في ذلك حتى رأوا جرما النظر في السنن، ورأوا أن الانشغال بالآثار غرر بالدين (٢)!! وإنما التقليد رخصة عارضة لا عزيمة


(١) - كما ارتابوا في دلالة مثل قول الصحابي: " نهى رسول الله عن بيع الغرر" وأنه "قضى بالشفعة للجار" على العموم فقال قائل منهم [إحكام الآمدي ٢/ ٢٧٤]: والذي عليه معول أكثر الأصوليين أنه لا عموم له لأنه حكاية الراوي ولعله رأى النبي قد نهى عن فعل خاص لا عموم له فيه غرر، وقضى لجار مخصوص بالشفعة فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم، ويحتمل أنه سمع صيغة ظنها عامة وليست عامة ويحتمل أنه سمع صيغة عامة، وإذا تعارضت الاحتمالات لم يثبت العموم والاحتجاج إنما هو بالمحكي لا بنفس الحكاية اه كذا قالوا! ولبئس ما زعموا ..
(٢) - قال الجويني في البرهان [٢/ ٧٣٣]: أجمع المحققون (كذا!!) على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين. والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين وأسوة للمسلمين فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد وإيضاح طرق النظر والجدال وضبط المقال. ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين!! اه أفلا قربوا لهم مذاهب الصحابة وأظهروا آثارهم كما فعلوا هم في مسائل أئمتهم .. فلم يكتب أحد من أئمة المذاهب ما زعموا من السبر والتبويب لا مالك ولا النعمان ولا أحمد ولا حتى الشافعي، وأكثر ما كتبوا مما "سبروا" و"بوبوا" لم يعرفه الشافعي. ولكنهم تأملوا ما روى المزني والربيع من فتاواه ومسائله، ونظروا في منطق اليونان، وراجعوا كتب المشتغلين باللغة من المتأخرين فاستنبطوا وبوبوا .. ثم زهدوا الناس في ما مضى، وصرفوا أعين الناس إليهم، كما غمزوا الأكابر من قبل لما قالوا: عقيدة السلف أسلم، وعقيدة الخلف أعلم وأحكم!! والله يغفر لنا ولهم.

<<  <   >  >>