وقد كان من سنة العلم عند الصحابة قول لا أدري، حتى قال ابن مسعود: فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم اه [خ ٤٤٩٦] فالعلم هو الذي ينبهك إلى مواطن التوقف، ويعلمك بقدرك أنك لا تدري، ويسهل عليك قولها، ومن فعل ذلك تعلم ما لم يعلم.
وروى الفسوي [الفقيه والمتفقه ١١٠٦] نا إبراهيم بن المنذر نا عمر بن عصام نا مالك بن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري (١) اه لذلك كان من علم الراسخين أن قالوا في ما لا يعلمون تأويله (آمنا به).
وقال الفسوي [المعرفة ١/ ٣٦٧] حدثنا زيد بن بشر أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس أنه سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه إذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري اه
فهذه سنة وهي نصف العلم، كما روى الدارمي [١٨٠] حدثنا يحيى بن حماد ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن الشعبي قال: لا أدري نصف العلم اه
فلما استشرى الرأي واستُعذِب ضاعت هذه السنة حتى أُنكِرت! قال المروزي [تعظيم قدر الصلاة ٤٤١] قال إسحاق قال يحيى بن آدم ذكر لأبي حنيفة قول من قال: "لا أدري نصف العلم" قال: فليقل مرتين: لا أدري حتى يستكمل العلم! قال يحيى: وتفسير قوله لا أدري نصف العلم أن العلم إنما هو أدري ولا أدري، فأحدهما نصف الآخر اه
وقد كان العلم عند الأولين الأثر دون الرأي كما في حديث عبد الله بن عمرو: إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يُستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون اه [خ ٦٨٧٧]. فجعل الرأي مقابلا للعلم.
ومن كان متكلما في كل شيء برأيه وبقواعد الرأي متى يقول: لا أدري؟!
فلما ظهر الرأي ضاعت هذه السنة، فظهرت مخالفة السنن، ونقص الاتباع، وكثر
(١) - حديث حسن. عمر بن عصام موثق [جذوة المقتبس ١/ ٨٨].