وايم الله لا يَسلم للعبد من شوب الشك دينُه، ولا تثبت في العلم قدمه حتى ينشرح صدره على بصر أن ما كان عليه النبي ﷺ وصحبه هو الدين والحكمة والكمال، وأن ما يحدث بعد فأحسن أحواله أن يعتذر له.
لكن ترى كثيرا من الخلق يرون التأليف ونحوه من أقضية النوازل (المصالح المرسلة) التي إنما يستنقذ بها المسلمون ضعفهم أنها الكمال والمقصود أصالة، فيعتذرون: لماذا لم تكن على عهد النبي والخلفاء؟ لِمَ لم يقرر أصولا للفقه وقواعد .. على نحو ما "أتقنه" المتأخرون! ولِمَ لم تكن محررة! فينطوي على ريب في صدره، وشبهات في قلبه! لو حققها لكان بها منافقا ..
فانظر إلى سلامة ما كان عليه السابقون الأولون في الظاهر والباطن، وما حوته البدع من سموم! لترى عين اليقين أن خير الهدى هدى النبي ﷺ، وأن البدع ضلالة وجهالة، وأنه ما حدثت بدعة إلا رفعت سنة خير منها ..
ويا ليت شعري ماذا جاء النبي ﷺ مبينا؟! أما التوحيد فاجتهدوا في التأويل! وأما الفقه فقاسوا واجتهدوا مع الدليل! وأما القربات فاستحسنوا وظنوا العمل الأول لا يشفي الغليل! فأي شيء بعث له الذي جاء بالبلاغ المبين؟! سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. لكنا نشهد لله أن رسوله قد بلغ ووفى. فمن طلب الاتباع فقد علم أن ما بيَّنه فالحكمة بيانه، وما أجمله فالحكمة إجماله، وما سكت عنه فالحكمة السكوت عنه، وما فعله فالحكمة فعله، وما تركه فالحكمة تركه، وما أظهره فالحكمة إظهاره، وما أخفاه فالحكمة إخفاؤه .. فمن خالف في شيء من ذلك، فقد انتقص من السنة الحكمة بحسب ذلك.
ولما نشأت الوعيدية - وأولهم الحرورية - الذين يكفرون بالكبيرة اضطر الناس إلى تفصيل ما أجمله النبي ﷺ، فنقصت عند ناسٍ سنةُ الإجمال وفائدته. فمن نصوص الوعيد ما أطلق النبي ﷺ لفظه على التغليظ، لتكون أبلغ في الزجر وأبعد عن المنكر (١)،
(١) - والناس في آيات الوعيد وأحاديثه ثلاث طوائف: طائفة جعلتها متشابهة مطلقا فلم تعرج عليها وأبطلت دلالتها وزعمت أنه سمي كفرا مجازا وهم المرجئة وقالوا هو وعيد لا يراد به ظاهره، وهذا من أقبح الهجر لكتاب الله، ثم تمسكوا بقضايا الأعيان كقصة حاطب وقصة عمار وجعلوها المحكمة. وطائفة جعلت نصوص الوعيد محكمة مطلقا وهم الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) وجعلوا أحكام النبي في مثل قصة عمار وحاطب .. متشابهات مشكلة فعطلوا دلالتها. والأمر عند الأولين أنها من جوامع الكلم التي أعطيها النبي ﷺ، وأن ما ورد في السنة هو بيان لشرائط العمل بها وهو الحكم أو الحكمة، يسميه الأصوليون تحقيق المناط. فالمصلحة في إبقاء العموم على عمومه، والشأن في تنزيل الحكم، فوظيفة العموم إبلاغ الوعيد، وإفادة أن العمل كفر، ووظيفة السنة بيان كيف الحكم والحكمة كما قال تعالى (آتيناه حكما وعلما) وقال (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [آل عمران ١٦٤] فدلالة آيات الوعيد هي العلم، والسنة في الحكم بها هو الحكم والحكمة. ومن أخطأ هذا الفقه فالتمس تنزيل الحكم على الأعيان من غير مظنته وقع في المتشابه كما سبق.