للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فحاروا في المحكم والمتشابه.

وغفلوا عن أن العرب لا تفرق بين النص والظاهر، فإن العربي إذا تكلم أفهم مراده بكلمة فصيحة تفصح عن مراده، بليغة تُبلغ المعنى إلى المخاطب وإلا كان عييا لا يكاد يبين، كما تقدم.

لكن كان من بيانهم البيان بقرائن الحال إشارة اليد والوجه ولحن الصوت .. يتمم المعنى ويوضحه بها، لذلك كانوا ربما سموها قولا، وهي إشارة دالة على معنى مثل القول (١)، وهي من السياق الذي غفل الناس عنه. وكانت من البيان المستحسن عندهم المستهجن غيره، هم كانوا أصحاب أرض يقل فيها الماء، ويكثرون السفر في التجارة والمغازي .. فكانوا إذا تكلموا كثيرا عطشوا كثيرا، والماء قليل، وللأرض أثر في النفوس والأخلاق، وكان يحتاج أحدهم أن يبين مقاصده بأوجز لفظ وأدله على المراد، فكانوا يتممون المعنى بإشاراتهم، جيلا بعد جيل حتى صارت لهم سليقة، ودخلت في البيان العربي.

بخلاف الروم كانوا أهل ترف وكثرة كلام، والقلم فيهم ظاهر، لا يحتاجون إلى بيان بالإشارة في ما يكتبون. فإذا رآها العربي وسمع الكلام قطع بالمعنى المراد وإن كان اللفظ منفردا "ظاهرا". وهذه منحة من الله خص بها أصحاب نبيه ، لأن بعض ذلك يستحيل نقله، لكن حُفظ معناه المقصود في تصرفات الصحابة وفهمهم، لذلك أمرنا باتباعهم، فليس الشأن إذاً في أن فهمهم معصوم أم لا، ولكن في كون النبي أفهمهم وبين لهم.

وهذا ما أشار إليه النبي بقوله: " ليس الخبر كالمعاينة " .. لذلك كانت أعمال القلوب عند الصحابة والعلمُ واليقين لأجل المعاينة أعظم مما عند التابعين، وقد


(١) - كما روى البخاري [٦٥٢] في قصة صلاة أبي بكر بالنبي وفيه: فأشار إليه رسول الله : أن أمكث مكانك. فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله فصلى فلما انصرف قال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك اه فسمى الإشارة المفهمة أمرا، ومثل هذه الدلالة تكاد لا تجدها في صيغ الأمر من كتب الأصول.

<<  <   >  >>