- التاسع والعشرون: أن وراء تكرار العموم والتأكيد عليه نكتة أخرى: وهي أن العرب ابتدعت في عباداتها بدعا استحسنتها، ونسبتها إلى دين إبراهيم ﵇، فتعبدوا بالمكاء والتصدية وبترك اللباس - الذي عصوا الله فيه - عند الطواف تعظيما للكعبة، وسيبوا السوائب .. واستحسنوا استحسانا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. فكان من أصولهم في التدين القولُ بالبدعة الحسنة، ينسبونها إلى دين إبراهيم ﵇. لذلك كان الاستعمال اللغوي يقبل التقسيم إلى حسن وقبيح، وهذا كما كانوا يستحبون الخَمرة ويسمونها بأسماء حسنة كالرحيق، ويَدْعون آلهتهم بألقاب يعظمونها بها كالغرانيق .. حتى دخلت هذه الأمور في اللسان ..
فجاء النبي ﷺ مجددا ملة أبيه إبراهيم ﵇، ومصححا للسان معها وماحياً محا الله به الشرك والضلال الذي كان سببه استحسان البدع، لذلك أطلق العموم إطلاقا، وأكده تأكيدا، حتى تزول الشبهة من الأذهان، ويصير اللفظ "بدعة" علما على المذموم تجديدا لاستعمال لغة الدين، كأنه يقول: كل بدعة ضلالة، لا كما تحسبون، والله أعلم.
إذا عرفت هذا تبين أنه لا وجه للقول بجواز إطلاق البدعة الحسنة في اللغة إلا ما يكون من باب العفو من غير إرادة لاستحسان البدع، كما يجري على لسان أحدهم عند تأكيد الكلام قوله:"لعمري" من غير قصد لحقيقة معناه وهو الحلف بغير الله.
فالسنة لما جاءت بما يسمى حقائق شرعية إنما جاءت مصححة لعادات العرب واللسان تبع. كالصلاة كانت العرب تطلقه حقيقة دينية على الدعاء بهيئة مخصوصة كانوا به مشركين، فجاء الله بنبيه فصحح استعماله في هيئة مخصوصة بدعاء الله وحده في الصلاة ودعاءِ الله للميت في صلاة بَيَّنَ حدودها. والعرب تذم من تصرف في لسانها بما لا تعرف، فلم يأت النبي بالتصرف في اللغة بنقل الاستعمال اللغوي إلى عرف شرعي جديد ولكن بتصحيح العبادات الباطلة والاستعمال الديني، لذلك يأمر الله بإقام الصلاة لأنهم كانوا يصلون (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)[الأنفال ٣٥] ويُهلون ويعرفون السجود والركوع كما قال النابغة الذبياني: