للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلتُ: وهذا بَعِيدٌ من أبي سَعيد على زُهْدِهِ ووَرَعِهِ.

قَرَأتُ في رِسَالَةٍ في تَقْرِيْظ أبي عُثْمان عَمْرو بن بَحْر الجَاحِظ، تأليف أبي حَيَّان عليّ بن مُحَمَّد بن العبَّاس التَّوْحِيْدِيّ (١)، ذَكَرَ في أوَّلها أنَّهُ لَقي جَمَاعَة من الشُّيُوخ العُلَمَاء، وأنَّهم كانوا يُقَرِّظُونَ الجَاحِظ، فذَكَرَ منهم جَمَاعَة، وقال: ومنهم أبو سَعيد السِّيْرَافيّ، شَيْخ الشُّيُوخ، وإمام الأئمَّة مَعْرفَة بالنَّحو، والفِقْه، واللُّغَة، والشِّعْر، والغَرِيْب، والعَرُوض، والقَوَافي، والقُرْآن، والفَرَائض، والحَدِيْث، والشُّرُوط، والكَلَام، والحِسَاب، والهَنْدَسَة. أفْتَى في جامع الرُّصَافَة خَمْسِين سَنَة على مَذْهَب أبي حَنيْفَة، فما وُجِدَ له خَطَأ ولا عُثر منه على زَلَّةٍ، وقَضَى ببَغْدَاد، وشَرَحَ كتاب سِيْبَويه في ثلاثة آلاف وَرَقَة ومائتي وَرَقَة بخَطِّه في السُّلَيْمَانِيّ، فما جارَاهُ فيه أحَدٌ، ولا سَبَقَهُ إلى تَمَامه إنْسَانٌ، هذا مع الثِّقَة والأمَانَة والدِّيانَة والرَّزَانَة، صَامَ أرْبَعيْن سَنَة وأكْثر الدَّهْر كُلّه.

قال لنا الأنْدَلُسِيّ: فارَقتُ بَلَدِي في أقْصَى المَغْرب طَلَبًا للعِلْم ومُشَاهَدَة العُلَمَاء، فكنتُ -إلى أنْ دَخَلْتُ بغداد، ولَقِيْتُ أبا سَعيد، وقَرَأتُ عليهِ كتاب سِيْبَوَيْه- نَادِمًا سَادمًا في اغْترَابي عن أهْلي ووَطَني، من غير جَدْوى في عِلْم، أو حَظٍّ من دُنْيا، فلمَّا سَعدْتُ برُؤية هذا الشَّيْخ، عَلِمْتُ أنَّ سَعْيي قُرن بسَعْدي، وغُرْبَتي اتَّصَلت ببُغْيَتي، وأنَّ عنائي لَم يَذْهَب هَدْرًا، وأنَّ رَجَائي لَم يَنْقَطع يأسًا.

قُلتُ: هذا الأنْدَلُسِيّ كُنْيَتُهُ أبو مُحَمَّد.

قرأتُ بخَطِّ القَاضِي الفَاضِل عبد الرَّحيم بن عليّ البَيْسَانِيّ: قال أبو حَيَّان (٢): قد سَألَهُ الوَزِير فقال: أين أبو سَعيد السِّيْرَافيّ من أبي عليّ، وأينَ عليّ بنُ عِيسَى


(١) كتاب تقريظ الجاحظ مفقود، اطلع عليه ياقوت وأخذ منه، ونقل النصّ أعلاه عن التوحيدي في معجم الأدباء ٣: ٨٧٨ - ٨٧٩. وانظر: الزركلي: الأعلام ٥: ٧٤.
(٢) الإمتاع والمؤانسة ١: ١٢٩ - ١٣٠، ونقله ياقوت في معجم الأدباء ٣: ٨٨٨ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>