للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمْسَكَ الشَّيْخُ عليه حمَارَهُ، واعْتَنَقَا، وجَعَل أبو نُوَاس يُحَادِثُهُ وهو قائمٌ على رِجْليهِ، فمكُثا بذلك مَليًّا حتَّى رأيتُ أبا نُوَاس يَرْفَعُ إحْدَى رِجْليهِ ويَضَعُها على الأخرى مُسْتَريحًا من الإعْياء، ثمّ انْصَرَفَ الشَّيْخُ، وأقْبَل أبو نُوَاس فجلسَ في مَكانهِ، فقال له بعضُ (a) مَنْ بالحَضْرة: مَنْ هذا الشَّيْخُ الّذي رأيتُكَ تُعَظِّمُه هذا الإعْظَام، وتُجلُّهُ هذا الإجْلَال؟ فقال: هذا إسْمَاعِيْلُ بن القَاسِم أبو العَتَاهِيَةِ. فقال له السَّائِلُ: لِمَ أجْلَلْتَهُ هذا الإجْلال، وسَاعةٌ منكَ عند النَّاسِ أكثَرُ منه؟! قال: وَيْحَك، لا تفعَلْ، فواللهِ ما رأَيْتُهُ قَطُّ إلَّا توهَّمتُ أنَّهُ سَمَاوِيٌّ وأنا أرْضِيٌّ!.

أخْبَرَنا أبو القَاسِم عِيسَى بن عَبْد العَزِيْز بن عِيسَى اللَّخْمِيّ، في كِتَابِه إليْنَا من الإسْكَنْدَرِبَّة، قال: أخْبَرَنا الحافِظ أَبو طَاهِر أحْمَدُ بن مُحمّد بن أحْمَد السِّلَفِيُّ، قال: أخْبَرَنا أبو مُحَمَّد جَعْفَر بنُ أحْمَد بن الحُسَين السَّرَّاجُ، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم المحسِّنُ بن حَمْزَة بن عَبْدِ الله الوَرَّاق، قال: حَدَّثَنَا أبو عليّ الحَسَنُ بن عليّ بن جَعْفَر الدَّيْبُلِي، قال: أخْبَرَنا أبو القَاسِم عليّ بن مُحَمَّد بن عُبْدُوْس الكُوْفيّ، قال: حَدَّثَني أبو عليّ مُحَمَّد بن هَمَّام، عن يعْقُوب بن إسْحاق الرُّخَاميِّ، عن أَبِيهِ، قال: كُنْتُ جالِسًا مع أبي نُوَاس على بابِ دَاره بالبَصْرَة، فبَيْنا نحن كذلك إذا أقْبَل شَيْخٌ على حِمَارِهِ، فلمَّا بَصُرَ به أبو نُوَاس قام فتلقَّاهُ، ومَشَى معه يُحَادِثُهُ، وشَيَّعَهُ، ثمّ رجع، فقُلتُ لَهُ: بالله ما رَأب كاليَوْم قَطّ، قال: وما ذاك؟ قُلتُ: أنا جَالِسٌ معَكَ منذُ الغَداة يَمُرُّ بنا طَبَقَاتُ النَّاس من بني هاشِم وغيرهم، ما رأيتُكَ حَفِلْتَ بأحِدٍ منهم، حتَّى أقْبلَ هذا الشَّيْخُ ففَعَلْت به ما رأيْتُ، فقال: أوَما تَعْرفُ هذا؟ هذا أبو العَتَاهِيَة الّذي يَقُولُ (١): [من الطويل]

إذا قَلَّ مَالُ المَرْء قَلَّ صَدِيْقُهُ … وضَاق (b) به عمَّا يُريْدُ طَرِيْقُهُ


(a) ساقطة من ب.
(b) ديوانه: وضاقت.

<<  <  ج: ص:  >  >>