للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم رَجُلًا، وكذلك فَارِسُ تفعَل، فلمَّا بلَغَ ابنها عَاثَ وأفْسَد، وخَاشَن الرَّشِيْدَ، فخافَتْ على مُلْكِ الرُّوم أنْ يذهَبَ، وعلى بلادِهم أنْ تعْطَبَ، لعِلْمها بالرَّشِيْد، وخَوْفها من سَطْوَته، فاحْتَالتْ على ابنها فسَمَلَتْ عَيْنه، فبَطَل من المُلْكِ، فعادَ إليها، فاسْتَنْكَر ذلك أهْلُ المَمْلَكَةِ، وأبْغَضُوها من أجْلِهِ، فخرَجَ عليها نَقَفُور (a)، وكان كاتِبَها، فأعانُوه وعضَدُوه، فقام بأمْرِ المُلْكِ، وضَبَطَ أمْرَ الرُّوم، فلمَّا قوي على أمْره، وتمكَّنَ من مُلْكه، كَتَبَ إلى الرَّشِيْدِ: من نَقَفُور مَلِكِ الرُّوم إلى هَارُون مَلِكِ العَرَبِ، أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ هذه المَرَأةَ كانت قد وَضَعَتْكَ وأباكَ وأخَاكَ مَوضِعَ الشَّاهِ، ووضَعَتْ نَفْسَها مَوضعَ الرُّخّ، وأنا الشَّاهُ وأنْتَ الرُّخُّ، وقد عزَمْتُ على تَطَرُّقِ (b) بلادِكَ والهُجُوم على أمْصَاركَ، أو تُؤَدِّي إليَّ ما كانت المَرْأةُ تُؤدِّيهِ إليكَ، وكَلَامًا شَبِيهًا بهذا.

فلمَّا وَرَدَ على الرَّشِيْدِ كَتَبَ إليه: بِسْم الله الرَّحْمن الرَّحِيْم. من عَبْدِ الله هارُونَ، أَمِيرِ المؤمنِيْن، إلى نَقَفُور كَلْبِ الرَّوم، أمَّا بَعْدُ؛ فقد فهمْتُ كتابكَ، وجَوَابكَ عندي ما تَرَاهُ فَضْلًا أنْ تَسْمَعَهُ.

ثُمَّ شخَصَ من شَهْره يَؤُمُّ بلادَ الرُّوم في جَمْعٍ لم يُسْمَعِ بمثلِهِ، وقُوَّادٍ لا يُجَارَوْنَ رَأيًا ونَجْدةً، فلمَّا بلَغَ ذلك نَقَفُور ضَاقَتْ عليه الأرْضُ بما رحُبَتْ، وشَاور في أمْره، وجاءَ الرَّشِيْدُ حتَّى توَغَّل بلادَ الرُّوم يَقْتُل ويَسْبي ويَغْنَم، ويُخَرِّب الحُصُونَ، ويُعَفِّي الآثارَ حتَّى صَار إلى طَريقٍ مُتَضَايقَةٍ دُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فلمَّا بلَغَها ألْفَاها وقد أمَرَ نَقَفُور بالشَّجَر فقُطِعَ، ورُمِي به في تلكَ الطُّرُق، وأُشْعِلَتْ فيه النِّيْرَان، فكان ذلك ممَّا تَحَصَّنَ بهِ عند نَفْسه، فقال الرَّشِيْد: ما تَرَونَ في هذه النِّيْرَان؟ فكان أوَّل مَنْ تلَبَّس


(a) هكذا جرَّده المؤلف في عديد المواضع التي يرد ذكره فيها، وقيَّده الطبري (تاريخ ٨: ٣٠٨ وما بعده) وأبو العتاهية (ديوانه ٤٨٩): بكسر النون وسكون القاف وفاء مضمومة، وفي الأغاني: نَقْفور، بفتح ثم سكون.
(b) في الأصل، ب: تطرف، والمثبت من الأغاني.

<<  <  ج: ص:  >  >>