للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك أيضًا في قصة الرجل الذي له مال، ولم يدفع الصدقة، فقد جاء في آخره: أن أحد الصحابة سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما الغِنى؟ قال: "خمسون درهمًا" (١). فهذا نص عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيان من هو الغني: فهل نقف عنده؟ وقد جاء في حديث آخر تحديد مقدار الغِنَى بأنه أوقية (٢)، وهي أربعون درهمًا، فهل هذا تحديد؟ أو بيان لحالة من حالات الفقر؟

وإنه -في واقع الأمر- عندما نلقي نظرة سريعة على أسرار هذه الشريعة وحِكَمها نجد أن الأقرب في ذلك هو مراعاة الحاجة، وهذا -كما ذكر المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ- يختلف باختلاف الناس، واختلاف أحوالهم وقضاياهم، ولذلك نقول: الإنسان الذي عنده شيء من المال، ولا يكفيه لحاجته نسميه فقيرًا، ولو كان يملك خمسين درهمًا: فماذا تفعل له في هذا الزمن؟ فهي لا تكفيه، بل ربما لا تكفيه ليوم واحد، فقد يكون صاحب عيال، وعنده جمعٌ من الناس ينفق عليهم، وعليه مسؤولية مالية عظيمة، فهل تكفيه هذه الخمسون من الدراهم؟! وليس معنى هذا في الحقيقة أننا نرد حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على العين والرأس، وإنما الأحوال تختلف باختلاف الناس، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة: فهل ما كان يصلح في عصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلح في وقتنا الآن؟ بالطبع لا. فقد تغيرت الأمور، وعظمت المسؤوليات، وتعددت وتنوعت وارتفعت الأسعار، فكان لا بد أن نلاحظ أحوال الناس، وحاجاتهم، فاقتضى هذا الأمر أن نقدر حد الغِنى بالحاجة، فقد نجد إنسانًا يملك خمسين درهمًا، وربما أكثر من ذلك، ولا تفيده شيئًا الآن، لكن لو وجد إنسان له دخل يوميٌّ؛ بأن يكون يعمل في مصنع، أو في حرفة؛ في حِدادة، أو في نجارة، أو في حياكة، أو غير ذلك، ويحصل من خلال ذلك على مالٍ يوميًّا يصل به إلى حد الكَفاف له ولأولاده، فهذا بلا شك ليس بفقير.


(١) تقدم تخريجه.
(٢) تقدم تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>