الأكبر، فكانوا يحلّون في المحرم ما كان فيه من قتال وسفك دم واستباحة حريم، ويحرمون في صفر ما كان مباحا عندهم وفي مذهبهم ليواطئوا العدة، ويبلغوا فيما رأوه من الإرادة، والمواطاة: الموافقة.
وحكى ثعلب أنّ الكناني كان يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم في الجاهلية فيقوم إذا أرادوا الصّدر عن منى فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أخاب، ولا يرد لي قضاء فيقولون: صدقت انسينا شهرا، ويريدون أخّر عنّا حرمة المحرم، واجعلها في صفر فيفعله، ولهذا ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى أنّ الأشهر الحرم كانت في الجاهلية عشرون.
من ذي الحجة، ثم المحرم، ثم صفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر، وفي الإسلام هي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ثلاثة متناسقة، وواحد منفرد، وكانت العرب تعظم رجبا، وتسميه منضل الأسنّة، ومنضل الآل لأنّهم كانوا ينزعون الأسنّة من الحراب والرّماح توطينا للنّفوس على الكف عن المحظور فيه في مذهبهم ويسمّونه أيضا شهر الله الأصم لأنه كان لا يسمع فيه تداعي القبائل ولا قعقعة السلاح.
قالوا: فلما قام الدّين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله في النسيء ما أنزل ولتأكيد الأمر فيه ذكره صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع فقال: «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السّماوات والأرض السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» . ثم انتسب الناس بعد فراغه مما أراد تأكيدا للقول فيه فقال: في أي يوم يخطب؟ ومن أي شهر هو؟ حتى أجابوه فأشهد الله على ما فعل فقال:«ألا هل بلغت اللهم فاشهد» .
فهذا الأمر النسيء، ومعنى قوله عليه السلام: قد استدار كهيئته هو أنهم كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفرا كما ذكرنا.
ثم كانوا يحتاجون في سنة أخرى إلى تأخير صفر إلى الشّهر الذي بعده كحاجتهم في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك دعة، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، وكان يتدافع شهرا شهرا حتى دار التّحريم على شهور السّنة كلّها. وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به وذلك بعد دهر متطاول، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أراد رجعة الأشهر إلى مواضعها وبطل النسىء.
وروي عن مجاهد أنه قال: كانت العرب في الجاهلية يحجّون عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجّة، فلمّا كانت السّنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه كان الحج في السنة الثانية من ذي القعدة، وهي حجة قراءة براءة قرأها علي كرّم الله وجهه على النّاس، ثم