للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبلال كان يذهب به سيده إلى أرض ذات حجارة تلهبها أشعة الشمس في وسط الهاجرة، فيلقيه عليها، ثم يضع على صدره جندلا ثقيلا حارا، وربما شدّ عنقه بالحبل، فيجره جرّا أليما في سكك مكّة.

وكذلك فعل بأبي فكيهة: ربطت رجله بالحبل، وسحب على الأرض، وخنق، وقد وضع مرّة على صدره حجر ثقيل حتى ضاقت أنفاسه، واندلع لسانه.

وكذلك عمّار أوذي إيذاء شديدا، فكان يجندل على الرّمضاء، ويضرب ضربا مبرّحا. بل إن الزبير كان عمه يلفه بالحصير، ويدخّن عليه من أسفل. وسعيد بن زيد كان أهله يضربونه فيصبر. وعثمان كان عمه يضربه. فقابل هؤلاء كلهم البلايا والمحن، وذاقوا العذاب الشديد برباطة جأش، وثبات قلب، وقوة إيمان، فأشربت دماؤهم من هذا الرّحيق الإلهي الذي تناولوه من كأس الإسلام، فلا يتحولون عنه مدى الحياة.

إخواني! تأملوا! أليس هؤلاء هم العرب الذين كانوا في معزل عن العمران يعبدون الأوثان، ويعكفون على الأصنام، وكانوا في جاهلية ضاربين فيها بجرانهم، فما بالهم انقلبت أحوالهم، وتغيّرت شؤونهم؟ إنّ أرضهم لا تزال هي الأرض، وسماؤهم كما كانت، وبلادهم لم تتغير.

فكيف انجلى عنهم ظلام الجهل؟ وكيف نفخ فيهم ذلك الأميّ روح الدّين الحقّ، فأصبح جاهلهم صالحا، ومحاربهم مسالما؟ وماذا علّمهم حتى انقلب الفاسد صالحا، والمفسد مصلحا، والذي لم يكن يحسن شيئا لم يلبث أن صار يدير الملك، ويصرّف شؤون الحكومة، ويسوس أمور الرعايا؟ وكيف نبغ منهم ذوو العقول الراجحة، والآراء السديدة، والأفكار الثاقبة؟ إنّ الرسول الأميّ الأعزل الذي لم يحمل في شبابه سلاحا، ولم يملك من قبل بلادا كيف أقام للأمة العربية- التي لم تكن الأمم تقيم لها في كفّة السياسة العالمية وزنا- دولة ذات عظمة وجلال، واكتشف في نفوس رجالها كنزا من القوة لا ينفد، وكيف جعل هذا الأميّ

<<  <   >  >>