للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في سبيله! فإذا كان من الفخر عند غيرنا أن يصلب واحد في سبيل الله ونجاة خلقه، فنحن قد صلب وقتل مئات من سلفنا الأولين لذات الله تعالى وحده، ولنجاة الإنسانية كلّها من الوثنية، والضلال، والشرك.

إنّ النفس إذا ماتت استراحت، سواء في ذلك أقتلت بحدّ السيف أم بسنان الرّمح، أو صلبت، فهي تذوق سكرة الموت لمحة، وتتألّم ببطش المنية، وزهوق النفس، ثم تستريح، وأكبر من ذلك وأشدّ منه عذابا حياة المكابدين للبغي والظلم أعواما، والصابرين على الأذى في سبيل الله صبرا جميلا، فمنهم من ذاق أنواع العذاب لثباته على قول الحق، ومنهم من وضعت الحجارة المحماة على صدورهم، وصرعوا في الرمضاء وحرّ الهاجرة، وكانوا يتقلبون على ذلك، ويتململون، ويسحبون على وجوههم؛ لينصرفوا عن قول الحق، ويصبؤوا عن عقيدة الإسلام فلا يبالون بذلك، ويصرون على توحيد الله والشهادة بالرسالة المحمدية.

ثم ألم يأتك نبأ الذين حصروا في شعب أبي طالب جياعا كيف كانوا يبيتون الليالي، ويقضون الأيام وهم يقتاتون بأوراق الطّلح بعد أن فني زادهم، وصفر وطابهم، وأعوزهم القوت. إنّ سعد بن أبي وقاص مسّه ألم الجوع في ليلة شديدة من تلك الليالي، فخرج من شعب أبي طالب يطلب شيئا يتبلّغ به ليذهب بعض ما به من ألم السّغب، فلم يجد إلا قطعة جافة من إهاب، فغسلها، وشواها، وأكلها بالماء.

وعتبة بن غزوان «١» أيضا كان من الذين امتحنوا في شعب أبي طالب بأيدي المشركين، وهو يقول: إني وأصحابي السبعة قد دميت أفواهنا من أكل هذه الأوراق والأشياء التي نقتات بها.

وخبّاب لما أسلم وعلم بإسلامه المشركون ألقوه على الجمر الملتهب، وأمسكوه عليه حتى انطفأ الجمر بالصّديد والقيح الذي سال من ظهر خباب.


(١) هو عتبة بن غزوان بن جابر بن وهيب الحارثي المازني، صحابي قديم الإسلام، باني مدينة البصرة، هاجر إلى الحبشة، شهد بدرا، وشهد القادسية. بعثه عمر رضي الله عنه- إلى البصرة واليا عليها، توفي سنة ١٧ هـ، وله ٤ أحاديث مروية.

<<  <   >  >>