[الفصل الرابع: أهمية علم علل الحديث.]
إن علم علل الحديث هو أجل علوم الحديث شرفاً وذكرا، وأعظمها فخراً وخطرا، وأرفعها منزلةً وقدرا، وأهمها في بيان درجة الحديث صحةً وضعفاً.
قال الخطيب البغدادي: (معرفة علل الحديث أجلّ أنواع علم الحديث) .
وقال ابن كثير: (وهو فن خفي على كثير من علماء الحديث! ، حتى قال بعض حفاظهم: (معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل) . وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيحه وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والزيوف، والدنانير والفلوس، فكما لا يتمارى هذا، كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس) .
وقال ابن حجر: (وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايضاً واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك) .
قلت: وذلك لأن من شروط صحة الحديث وسلامته انتفاء العلل القادحة فيه، فالقوادح الظاهرة البينة يدركها كل أحد، أما الخفي منها فلا يُدرك إلا لمن آتاه الله ملكة قوية في الفهم وإتقاناً في الحفظ.
فميدان علم العلل هو تمحيص أحاديث الثقات، وكشف ما يعتريها من وهم وخطأ ـ إذْ ليس يسلم من الخطأ أحد ـ.
أما أحاديث الضعفاء والمتروكين فأمرهم هّين، ووضوح خطئهم بّين.
قال الحاكم: (وإنما يُعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له على فيخفى عليه علمهم فيصير الحديث معلولاً) .
ومما يدلك على أهمية هذا العلم وصعوبته:
أنه ربما توقف الناقد في حديث ما لخفاء علته فلا يقف عليها إلا بعد مدة طويلة.
قال الخطيب البغدادي: (فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا يُوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضي الزمن البعيد) ، ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: (ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة!!) .
_بل ربما خفيت هذه العلة على إمام ناقد وأدركها إمام آخر:
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطالقاني عن محمد بن مهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمى ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سموا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة، وارتبطوا الخيل، وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوثان) . قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي، وكان يقع في قلبي أنه أبو وهب الكلاعي ـ صاحب مكحول ـ وكان أصحابنا يستغربون، فلا يمكنني أن أقول شيئاً لما رواه أحمد.
ثم قدمت حمص فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة قال حدثني محمد بن مهاجر قال حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا به أبي مرة أخبرني قال: حدثنا هشام عن عمار بن يحيى بن حمزة عن ابن وهب عن سليمان بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل، وعلمت أن إنكاري كان صحيحاً.
(ثم ذكر أبو حاتم أن أباوهب الكلاعي يروي عن التابعين) ثم قال: فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خفي عليه؟! فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه ...) .
ولأجل هذا كان الناقد منهم يفرح إذا ظفر بعلة حديث.
قال عبد الرحمن بن مهدي: (لأن أعرف علة حديث هو عندي أحب إلّي من أكتب عشرين حديثاُ ليس عندي) .
بل ربما تحمل المشاق والمصاعب من أجل معرفة علة حديث واحد!
قال نصر بن حماد: كنا بباب شعبة نتذاكر الحديث فقلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناوب رعاية الإبل، فرحت ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس وحوله أصحابه فسمعته يقول: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل المسجد فصلى ركعتين واستغفر الله غفر الله له) . قال: فما ملكت نفسي أن قلت: بخٍ بخٍ، قال: فجذبني رجل من خلفي فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا ابن عامر الذي قال قبل أن تجيء أحسن، قلت: ما قال فداك أبي وأمي؟ قال: قال: من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فتحت له ثمانية أبواب من الجنة من أيها شاء دخل) . قال: فسمعني شعبة فخرج إليّ فلطمني لطمة!! ثم دخل ثم خرج، فقال: ما له يبكي؟! فقال عبد الله بن إدريس: لقد أسأت إليه، فقال: أما تسمع ما يحدث عن إسرائيل عن أبي اسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر! وأنا قلت لأبي اسحاق: أسمع عبد الله بن عطاء من عقبة بن عامر؟ قال: لا. وغضب، وكان مسعر بن كدام حاضراً فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ما له ليصححن لي هذا الحديث أو لأسقطن حديثه! فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة، فرحلت إليه ولم أرد الحج إنما أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام، فدخلت المدينة فلقيت سعد ابن إبراهيم فسألته، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مخراق حدثني، فقلت: أي شيء هذا الحديث! بينا هو كوفي صار مكياً صار مدنياً صار بصرياً!! فدخلت البصرة، فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس هذا من بابتك، قلت: بلى قال: لا تريده، قلت: أريده، قال: شهر بن حوشب حدثني عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر، قال: فلما ذَكر لي شهراً قلت: دمّر على هذا الحديث! لو صحّ لي هذا الحديث كان أحبّ إلّي من أهلي ومن مالي ومن الدنيا كلها!!) .