اقْتِرَانِهِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الْخَالِي عَنْ الْفَائِدَةِ الَّذِي يَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَعْنِي الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالسَّهْوِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦] وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ وَالْمُؤَاخَذَةِ.
وَقَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ السِّتَارَةُ أَيْ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِالْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ السَّهْوِ وَعَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمُنْعَقِدَةِ وَهِيَ سَاكِتَةٌ عَنْ الْغَمُوسِ فَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِنَا، وَهُوَ عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ.
(وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْمَحَلِّ (فَبِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغَايُرِ الْمَحَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ٢٢٢] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فَبِالتَّخْفِيفِ يُوجِبُ الْحِلَّ بَعْدَ الطُّهْرِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ وَبِالتَّشْدِيدِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ فَحَمَلْنَا الْمُخَفَّفَ عَلَى
ــ
[التلويح]
أَنَّ الْإِفَادَةَ خَيْرٌ مِنْ الْإِعَادَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ سَوْقَ الثَّانِيَةِ لِبَيَانِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَكْرَارَ.
(قَوْلُهُ: وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا) وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي دَفْعِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْخَالِي عَنْ الْقَصْدِ وَبِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي الْمَكْسُوبَةِ لَا فِي الْمَعْقُودَةِ، وَلَا فِي اللَّغْوِ فَالْآيَةُ الْأُولَى أَوْجَبَتْ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ وَالثَّانِيَةُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَا نَفْيًا، وَلَا إثْبَاتًا، فَلَا تَعَارُضَ لَهَا أَصْلًا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَأَثْبَتَهَا فِي الْغَمُوسِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِثْمُ وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا فِي الْمَعْقُودَةِ وَفَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا بِالْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الْغَمُوسِ بِالْإِثْمِ، وَفِي اللَّغْوِ لَا مُؤَاخَذَةَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَمَلَ الْمُؤَاخَذَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا عَلَى الْإِثْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَارَ الْمُؤَاخَذَةِ إنَّمَا هِيَ دَارُ الْآخِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: ٨٩] تَفْسِيرٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخْتَصُّ بِالْآخِرَةِ إنَّمَا هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْعِقَابُ وَجَزَاءُ الْإِثْمِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ إذَا حَصَلَ الْإِثْمُ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَوَجْهُ دَفْعِهِ وَسَتْرِهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى آخِرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّائِقَ بِنَظْمِ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِنَا لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِكَذَا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مُقَابِلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى إدْرَاكِ الْغَمُوسِ فِي اللَّغْوِ، أَوْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ، وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ خِلْوًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْغَمُوسِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ حُكْمُهَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ اللَّغْوُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لَيْسَ بِحَسَبِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute