للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَيْضًا الدَّلِيلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا بِكَسْبِ الْقَلْبِ، وَهُوَ يَحْمِلُهَا عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِنَّ اللَّغْوَ جَاءَ لِمَعْنَيَيْنِ فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ وَتُحْمَلُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْأُخْرَوِيَّةِ.

(وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا وَاللَّغْوُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَمُوسِ وَالْمُؤَاخَذَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ سَكَتَ عَنْ الْغَمُوسِ وَذَكَرَ الْمُنْعَقِدَةَ وَاللَّغْوَ وَقَالَ الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْكَفَّارَةُ) هَذَا وَجْهٌ وَقَعَ فِي خَاطِرِي لِدَفْعِ التَّعَارُضِ.

وَاللَّغْوُ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ السَّهْوُ أَمَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَبِدَلِيلِ

ــ

[التلويح]

بِالْآخَرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩] فَالْأُولَى تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ أَيْ الْقَصْدِ وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ اللَّغْوِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ وَفَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْغَمُوسِ وَالْمُخَلِّصُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي تُوجِبُهَا الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْغَمُوسِ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَاَلَّتِي تَنْفِيهَا الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي اللَّغْوِ وَيُؤَاخِذُكُمْ بِهَا فِي الْمَعْقُودَةِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: ٨٩] الْآيَةَ، وَلَمَّا تَغَايَرَتْ الْمُؤَاخَذَتَانِ انْدَفَعَ التَّعَارُضُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْمَلُ الْعَقْدُ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ مِنْ عَقَدْت عَلَى كَذَا عَزَمْت عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْغَمُوسَ وَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدًا، وَهُوَ نَفْيُ الْكَفَّارَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْمَعْقُودِ وَالْغَمُوسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ مُفَسَّرٌ وَالْعَقْدَ مُجْمَلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَيَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ وَرُدَّ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ رَبْطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَبْطِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ عَزْمِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ مَجَازًا. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَى الرَّبْطِ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي، فَهُوَ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادَهُ بِمَعْنَى رَبْطِهِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ فِي الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ.

الثَّانِي: أَنَّ اقْتِرَانَ الْكَسْبِ بِالْمُؤَاخَذَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُدَّ بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا فِي الْحُقُوقِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ تَكْرَارٌ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا شَكَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>