للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

فالدُّنيا وكلُّ ما فيها ملعونة، أي: مُبعدَةٌ عن الله؛ لأنَّها تَشغلُ عنه، إلاَّ العلمَ النَّافع الدَّالَّ على الله، وعلى معرفته، وطلب قُرْبِه ورضاه، وذكر الله وما والاه ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ الله، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا، فإنَّ الله إنَّما أمرَ عبادَه بأنْ يتَّقوه ويُطيعوه، ولازِمُ ذلك دوامُ ذكره، كما قال ابن مسعود: تقوى الله حقّ تقواه أنْ يُذكَرَ فلا يُنسى (١). وإنَّما شرعَ الله أقام الصَّلاةِ لذكره، وكذلك الحج والطَّواف. وأفضلُ أهل العبادات أكثرُهم ذكراً لله فيها، فهذا كلُّه ليس مِنَ الدُّنيا المذمومة، وهو المقصودُ من إيجاد الدُّنيا وأهلها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (٢).

وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاء والصُّوفيَّة أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العبادات أفضلُ ممَّا يُوجد في الجنَّة مِنَ النَّعيم، قالوا: لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حقُّ (٣) العبد، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد، وهذا غلطٌ، ويقوِّي غلطَهم قولُ كثيرٍ من المفسِّرين في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} (٤) قالوا: الحسنةُ: لا إله إلا الله، وليس شيءٌ خيراً منها. ولكنَّ الكلامَ على التَّقديم والتَّأخير،

والمراد: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسببها ولأجلها.

والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً. وفي " صحيح الحاكم " (٥) عن المستورد بن شدَّادٍ، قال: كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة، فقال بعضهم: إنَّما الدُّنيا بلاغٌ للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاةُ، وفيها الزَّكاةُ. وقالت طائفة منهم: الآخرةُ فيها الجنَّةُ، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدُّنيا في الآخرة إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه، فهو الدُّنيا»، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا، وما فيها من الأعمال.


(١) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (٥٩٥٧)، والطبراني في " الكبير " (٨٥٠١) و (٨٥٠٢)، والحاكم ٢/ ٢٩٤، والبغوي في " تفسيره " ١/ ٤٧٩، وابن الجوزي في " تفسيره " ١/ ٤٣١.
(٢) الذاريات: ٥٦.
(٣) في (ج): «حظ».
(٤) النمل: ٨٩.
(٥) المستدرك ٤/ ٣١٩.

<<  <   >  >>