للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

ووجه ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ، ويصيرُ الخبر عياناً، ويصيرُ علمُ اليقين عينَ اليقين، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً، فأين هذا مما في الدُّنيا؟ وأما الأعمال البدنية، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين:

أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة، وكدُّها بالعبادة.

والثاني: اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره.

فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة.

وأما المقصود الثاني، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عياناً، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته، وسماع كلامه، ولاسيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا، كالجُمَع والأعياد، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشياً في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنَّةِ يرونَ ربَّهم (١) حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم لهُ، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهم أبداً، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ. قالَ ابنُ عيينة: لا إله إلا الله لأهلِ الجنَّة، كالماء البارد لأهل الدُّنيا، فأينَّ لذَّة الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة.


(١) أخرجه: الحميدي (١١٧٨)، وأحمد ٢/ ٣٨٩، والبخاري ٩/ ١٥٦ (٧٤٣٧)، ومسلم ١/ ١١٢ (١٨٢) (٢٩٩) و ١/ ١١٤ (١٨٢) (٣٠٠)، وأبو داود (٤٧٣٠)، وابن ماجه (١٧٨)، والترمذي (٢٥٥٤) من حديث أبي هريرة، ونص الحديث: «قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تُضامون في رؤية القمر ليلة البدر، وتُضامون في رؤية الشمس؟» قالوا: لا، قال: «فإنَّكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون في رؤيته».
والروايات مطولة ومختصرة.

<<  <   >  >>