للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

اكتسبوا فيها الرَّحمَةَ وربحُوا فيها الجَنَّة، فمن ذا يذمُّ الدُّنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلَها، فمثَّلت ببلائها البلاءَ، وشوَّقت بسرُورها إلى السُّرور، فذمَّها قومٌ عندَ النَّدامة، وحمِدها آخرون، حدَّثتهم فصدقوا، وذكَّرتهم فذكروا؟ فيا أيُّها المغترُّ بالدُّنيا، المغترُّ بغرورها، متى استلامت إليك الدُّنيا؟ بل متى غرَّتك؟ أبمضاجعِ آبائك مِنَ الثرى؟ أم بمصارع أُمَّهاتك منَ البلى؟ كم قد قلَّبت بكفيك، ومرَّضت بيديك تطلب له الشِّفاءَ، وتسأل له الأطباء، فلم تظفر بحاجتك، ولم تُسعَفْ بطلبَتِكَ، قد مثَّلت لك الدُّنيا بمصرعه مصرَعَك غداً، ولا يُغني عنك بكاؤك، ولا ينفعُك أحبَّاؤك.

فبين أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - أنَّ الدُّنيا لا تُذَمُّ مطلقاً، وأنَّها تُحمدُ بالنِّسبة إلى من تزوَّد منها الأعمال الصالحة، وأنَّ فيها مساجدَ الأنبياءِ، ومهبطَ الوحي، وهي دار التِّجارة للمؤمنين، اكتسبوا فيها الرَّحمة، وربحوا بها الجَنَّة، فهي نِعمَ الدَّارُ لمن كانت هذه صفَته. وأمَّا ما ذكر من أنَّها تَغُرُّ وتخدَعُ، فإنَّها تُنادي بمواعظها، وتنصحُ بعبرها، وتُبدي عيوبَها بما تُري أهلها من مصارع الهلكى، وتقلُّبِ الأحوال مِنَ الصِّحَّة إلى السَّقم، ومِنَ الشَّبيبة إلى الهرم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العِزِّ إلى الذُّلِّ، لكنَّ مُحِبَّها قد أصمَّه وأعماه حبُّها، فهو لا يسمع نداءها، كما قيل:

قدْ نادَتِ الدُّنيا على نَفسِها … لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسمَعُ

كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيتُهُ … وجَامِعٍ بَدَّدَتُ ما يَجْمَعُ

قال يحيى بنُ معاذ: لو يسمع الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ على الدُّنيا في الغيبِ من ألسنةِ الفناءِ، لتساقطت القلوبُ منهم حُزناً (١). وقال بعضُ الحكماء: الدُّنيا أمثالٌ تضرِبُها الأيَّامُ للأنام، وعلمُ الزَّمان لا يحتاجُ إلى تَرجُمان، وبحبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوب عنِ المواعظ، وما أحثَّ السائقَ لو شعرَ الخلائقُ.

وأهل الزُّهد في فضول الدُّنيا أقسام: فمنهم من يحصلُ له، فيمسكه ويتقرَّبُ به إلى الله، كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابة وغيرهم، قال أبو سليمان: كان عثمان

وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه، يُنفقان في طاعته، وكانت معاملتُهما لله بقلوبِهما (٢).


(١) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ١٠/ ٥٦.
(٢) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٩/ ٢٦٢.

<<  <   >  >>