للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم أولاً: للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني. وثانياً: ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد (١) فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟ فلو لم يعد الأمر لعطف {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على الأول: فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل على بعد أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان؛ ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجرداً عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} (٢) وقال الجبائي: إن الأول: من الجنة إلى السماء. والثاني: منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر {وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ} (٣) عقيب الأول و {جَمِيعاً} حال من فاعل {اهبطوا} أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (٤) وأبعد ابن عطية فجعله تأكيداً لمصدر محذوف أي هبوطاً جميعاً» (٥).

بعرض رأي الإمامين يتضح أنهما اختلفا في توجيه المتشابه، فقد نقل الإمام الرازي قولين: الأول: قول الإمام الجبائي ولم يتفق معه، والقول الثاني: للتأكيد ولكنه ضعفه وقال إنه عنده وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين، أما الإمام الألوسي فقد حمل التكرار على التأكيد وتوجيهات آخرى، ونقل رأي الجبائي وضعفه.


(١) التّرديد في البلاغة العربية هو "أن يأتيَ الشّاعر بلفظة متعلّقة بمعنى، ثمّ يُرَدّدُها بعينها متعلّقة بمعنى آخر في البيت نفسه، العمدة، ابن رشيق، (١/ ٥٦٦).
(٢) سورة الأنفال، الآية: (١٧).
(٣) سورة البقرة، الآية: (٣٦).
(٤) سورة الحجر، الآية: (٣٠).
(٥) روح المعاني، (١/ ٢٣٩).

<<  <   >  >>